في غمرة إجراءاتها التعسفية لمنع المسلمين من الصلاة في المسجد الأقصى وشنّ حملة إرهابية ضد عرب فلسطين وفي محيط مدينة القدس ذاتها، لم تتوانَ «إسرائيل» من صرف الانتباه عن محاولاتها المستمرة لتهويد مدينة القدس بعد أن ضمّتها رسمياً بقرار من الكنيست العام 1980 خلافاً لقواعد القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن التي اعتبرت قرار ضم القدس باطلاً ولاغياً ويتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة.
والأكثر من ذلك فإنها تحاول الظهور بمظهر «الضحية» بزعم أن أي انتقاد أو احتجاج على تصرفاتها اللاشرعية واللّاقانونية، إنما هو معاداة للصهيونية، وكل عداء يعني في وجهه الآخر، عداء للسامية.
جدير بالذكر أن الأمم المتحدة وجمعيتها العامة كانت قد أصدرت قراراً في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1975 برقم 3379 يقضي باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.
وفي حينها شنّت «إسرائيل» حملة ضد الأمم المتحدة وأمينها العام الأسبق كورت فالدهايم، متهمة إيّاها بمعاداة السامية، مثلما حاولت تشويه سمعته بكونه كان ضمن تشكيلات النازية في شبابه. واستماتت لإلغاء القرار. وكان ممثلها في الأمم المتحدة إسحاق هيرتزوغ الذي أصبح لاحقاً رئيساً «لإسرائيل» (العام 1986) قد صرّح أنه لن تمرّ فترة رئاسته إلاّ ويكون القرار قد أُعدم. وبدأ حملة دولية تطالب بإلغاء القرار، خصوصاً حين وقّع نحو 800 شخصية دولية سياسية وفنية وثقافية وأدبية تدعو الأمم المتحدة للتراجع عن قرارها.
وصادف أن تغيّر ميزان القوى الدولي والعربي لصالح الصهيونية، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية ولاسيّما الاتحاد السوفييتي وتدهور التضامن العربي إلى درجة مريعة بفعل مغامرة غزو الكويت العام 1990، ومن ثم شنّ الحرب على العراق وفرض نظام عقوبات شديد عليه، حتّى تمكّنت «إسرائيل» من التأثير في الموقف الدولي بكسب عدد من الدول في التصويت لصالح إلغاء القرار، فألغي بالفعل في ديسمبر/ كانون الأول العام 1991.
وتحاول «إسرائيل» اليوم صرف النظر عن انتهاكاتها السافرة لحقوق المسلمين وأتباع الديانات المختلفة، برمي كل من يقف ضد إجراءاتها تلك بمعاداة السامية. وللأسف فإن أوساطاً أوروبية تساند حملتها تلك، علماً بأن معاداة السامية تهمة تعاقب عليها القوانين الأوروبية، وتعتبر أقرب إلى ممارسة العنصرية.
وكانت الحملة لمنع المسلمين من أداء فروض العبادة والشعائر الدينية في المسجد الأقصى على أشدّها، ما يفيد بأن مناهضة الصهيونية ليست سوى إعادة اختراع جديد لمعاداة السامية.
وتحاول القوى المناصرة ل «إسرائيل» اليوم تقديم الصهيونية باعتبارها حركة تحرّر «لتمثيل الشعب اليهودي» والتعبير عن «حقوقه» في بناء وطنه، ولذلك فإن كل مناهض للصهيونية وأيديولوجية «إسرائيل»، إنما هو مناهض لحركة تحرر ولحقوق شعب، وبالتالي فهو معادٍ للسامية وضد حقوق اليهود.
واستناداً إلى مثل هذا التوجه، فإن أي انتقاد لممارسات «إسرائيل» يمكن أن يدمغ بمعاداة السامية. ووفقاً لمثل هذا الاجتهاد المريب فقد تعرّض بعض الناشطين في عدد من البلدان الأوروبية إلى اتهامات مثلما أُخضعوا إلى تحقيق بسبب جملة قيلت هنا أو تعليق قيل هناك، إزاء الصهيونية «العقيدة السياسية لإسرائيل»، كما يتلقى العديد من وسائل الإعلام الأوروبية رسائل وكتابات تندّد بأي انتقاد ل «إسرائيل» وأحياناً تتهمها بالعداء للسامية على نشر مواد خبرية أو برامج تلفزيونية أو إذاعية لما يحدث في فلسطين من جانب الاحتلال «الإسرائيلي».
والأكثر من ذلك فالحملة تشمل أحياناً تظاهرات واعتصامات أمام مداخل الوسائل الإعلامية وضغوطاً على بعض الإعلاميين تصل أحياناً إلى التهديدات.
وإذا ما عرفنا أن ثمة تواطؤاً من جانب الحكومات الأوروبية فإن بعض وسائل الإعلام تتردّد في نشر أو بث ما يؤدي إلى تعريضها للمساءلة أو الاتهام أو الضغوط.
إن الحملة التي انطلقت من فرنسا بلاد الحريات والحقوق، إنما تستهدف ربط معادي الصهيونية بالسامية، وذلك لإبعاد الصورة المأساوية التي يعيشها الشعب العربي الفلسطيني المحروم من حقوقه في تقرير المصير وإعادة اللاجئين وإقامة الدولة وعاصمتها القدس الشريف، حيث تستمر الانتهاكات لأبسط الحقوق وآخرها «حق العبادة» وممارسة «الشعائر الدينية»، إضافة إلى قتل الأطفال والنساء وهدم البيوت وتهجير السكان الأصليين، وتلك لا يجمعها جامع مع أي اعتبار إنساني أو تحرري أو أخلاقي أو قانوني دولي، بل هي تمثل جوهر العقيدة الصهيونية، الرجعية والاستعلائية، ولا علاقة للأمر بمعاداة السامية.