الفلسطيني الذي ينظر إلى قضيته الوطنية اليوم، وسط معطيات واقعها الراهن ومعطيات الوضع العربي والدولي، وأمام السياسات «الإسرائيلية» التوسعية العنصرية، يمكن ببساطة أن يغرق في اليأس ويجتاحه الإحساس القوي بالعبث واللاجدوى! فمن جهة، سيجد سلطة فلسطينية عاجزة، بل ومتواطئة، وذراعاً أمنية لسلطات الاحتلال، و«فصائل» تشارك هذه السلطة عجزها، مسؤولة بهذا القدر أو ذاك عن إخفاقات السلطة وتواطئها وتفريطها. ومن جهة ثانية، سيجد وضعاً عربياً منهاراً، ربما أكثر عجزاً وتواطؤاً من السلطة الفلسطينية ذاتها، وضعاً عربياً يحسب عليه وليس معه. ومن جهة ثالثة، قيادة «إسرائيلية» هي الأكثر تطرفاً، تعتقد أن الفرصة تاريخية وسانحة لتحقيق كل أطماع الحركة الصهيونية في فلسطين وتصفية قضية شعبها، فرصة هي الأفضل منذ قرن كامل، وتجد نفسها مدعومة بمجتمع دولي منحاز، علناً أو سراً، لسياساتها ومخططاتها التوسعية.
لكن هذه الصورة السوداء القاتمة ليست كل شيء، وهي لا تكتمل دون النظر إلى الشعب الفلسطيني من خارج الأطر التي علاها الصدأ، وغطّاها غبار الهزائم والمعارك الوهمية. فالواقعون تحت الاحتلال، سواء في المنطقة المحتلة العام 1948 أو الواقعون تحت احتلال 1967 أو المحاصرون في قطاع غزة أو الذين في الشتات، كلهم بدرجات مختلفة يرفضون الاحتلال، كما يرفضون سياسات الخضوع والاستسلام، ويعبرون بطرق مختلفة عن هذا الرفض، من الإضرابات والاعتصامات والفعاليات الشعبية، إلى المواجهات مع جيش الاحتلال بما تيسر من وسائل، كثيراً ما يرتقي فيها الشهداء ويقع الجرحى والمعتقلون.
المعطيات على «جبهة اليأس والاستسلام»، مادية مرئية وملموسة، ومن المكابرة الفارغة تجاهلها، لكن «حالة اليأس» لا تأتي من هذه المعطيات المادية بقدر ما تأتي من «قناعات» قديمة سابقة عليها أسقطتها الأحداث، لكنها لا تزال فاعلة في عقول ونفوس المتصدرين للمشهد السياسي. وأولى هذه «القناعات» الاعتقاد بأن «الجيوش» العربية تحديداً هي القادرة على مواجهة «دولة «إسرائيل» والتغلب عليها، أو فرض حل «مقبول» عليها! وما دامت الجيوش العربية لم تعد موجودة في إطار الفعل، حتى الفعل النظري الدفاعي بعد 2003 وتأكد بعد 2011، فإن التمسك ب«مقولات» القرن الماضي كلام لا طائل منه و«شعارات» لا فائدة منها، والبديل في نظر اليائسين والمستسلمين هو في النهاية قبول ما تعرضه الدولة الغاصبة، عملاً بحكمة «شيء أفضل من لا شيء»!! ومع أن مقولة «الجيوش» سقطت في العام 1967، وقامت على أنقاضها مقولة «المقاومة بكل أشكالها والمسلحة أساساً»، ومع أن هذه المقاومة أثبتت جدارتها قبل وبعد 2011، في جنوب لبنان وفي قطاع غزة، إلا أن المستسلمين، خصوصاً بعد «اتفاق أوسلو»، أسقطوا مقولتي «الجيوش والمقاومة» ومعهما إمكانية المواجهة والتحرير، مبقين على مقولة «المفاوضات حياة»! وذلك هو ما يرسم حدود ومصير القضية الفلسطينية في المدى القصير.
في المقابل، فإن أطماع القيادة الصهيونية وممارساتها القمعية وإجراءاتها العنصرية، إذ تثير الخلافات السياسية والأيديولوجية بين أطراف التجمع الصهيوني في فلسطين، تشير إلى ما تخلقه من وقائع، وإن بدت أنها تحقق لأصحابها ما يتطلعون إليه من أطماع، إلا أنها تخلق لهم في الوقت نفسه مشاكل وصعوبات داخلية وخارجية، تقل قدرتها أكثر وأكثر على تغطية مفاعيلها التي تعمل ضد تلك السياسات والممارسات والإجراءات، بالرغم من أن ذلك لم يدخلها حتى الآن عنق الزجاجة، وهنا يأتي دور النضال الوطني الفلسطيني الذي يخوضه الشباب في المدن والقرى الفلسطينية، وفي السجون «الإسرائيلية» أيضاً.
في معنى أوضح، في الوقت الذي تضيّق فيه سلطات الاحتلال على جيل الشباب فرص العيش ولو في الحد الأدنى، تدفعه دفعاً إلى التمرّد والمواجهة التي تتسع وتتعاظم، إذ ليس هناك من يستطيع أن يعطي تفسيراً لشباب ينفّذون عمليات ضد جنود الاحتلال بأدوات مثل السكين أو المفك، أو عمليات الدهس ورشق الحجارة وزجاجات المولوتوف، وهم يعلمون جيداً أنهم قد لا ينجحون في قتل أو حتى إصابة أحد منهم، بينما هم يعرفون أنهم سيقتلون برصاص هؤلاء الجنود! إن مواجهاتهم وعملياتهم حتى اليوم لا تعدو كونها تعبيراً، ولكن جلياً، عن رفضهم للوضع القائم وللاحتلال ول «دولة «إسرائيل»» جملة. إنهم يفعلون ذلك ليس لأنهم من «كارهي الحياة» ولا رغبة في الانتحار، بل وعيٌ منهم أن ذلك سيؤدي إلى نهوض شعبي في نهاية المطاف، وفضح كامل للنظام العنصري القائم، وأخيراً إعلان بفقدان الثقة بالنظام السياسي الفلسطيني ورموزه، فلا يبقى إلا المقاومة.
هذا الجيل الشاب وقناعاته الجديدة ورفضه للراهن العفن، هو ما يرسم خطوط الواجبات الوطنية الراهنة ومصير قضية فلسطين في المدى الطويل نسبياً، ولا أقول في المدى التاريخي الذي لا خلاف عليه!
الخميس 13 نيسان (أبريل) 2017
الصورة القاتمة ليست كل شيء
عوني صادق
الخميس 13 نيسان (أبريل) 2017
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
15 /
2484496
ar أقلام wikipedia | OPML OPML
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.19 + AHUNTSIC
35 من الزوار الآن