الدولة الوطنية بالأصل تعريفًا لسلطة الحُكم، أي تعريفًا بما هو ليس سلطة الاستعمار، لكنها أيضًا، وفي الوقت ذاته، حكمًا بالطلاق في حالتنا العربية بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة في الواقع السياسي. فما كان يضمره الاحتفال بالاستقلال وولادة (الدولة الوطنية) هو الاعتراف بشكلٍ أو بآخر، بالحدود الوطنية المُقرَّة في اتفاقية سايكس ــ بيكو في مثالنا الشامي. وقد أدى الاعتراف بالواقع المُقترن بإنكاره على النحو الذي حصل لأن تصبح تسمية (الدولة الوطنية) تسمية مؤقتة ريثما تتم استعادة أو تحقيق (الأمة)، كيان ودولة الأمة المؤجلة.
لكنها، أي الدولة الوطنية، تُعرَّف في الوقت نفسه، إيجابًا، بالقياس إلى المواطنة، والمساواة الحقوقية، والسياسية، وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، بين أبناء الوطن، وطنًا لجميع أبنائه بالتساوي، وليس لقلَّة سلطوية تحتكر الدولة. دولة وطنية تحمي حرية الناس وممتلكاتهم، وحتى أعراضهم، وفق قانون عصري يسري على الجميع، وعلى مؤسسات الدولة وكيانها.
في الحالة الوطنية الفلسطينية، كان إصرار الفلسطينيين على اعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير، ومن الوطن الشامي على وجه الخصوص، إصرارًا لافتًا للانتباه طوال الحقبة التي تلت خروج العثمانيين من البلاد العربية، حين أعلن الفلسطينيون وعبر ممثليهم إلى المؤتمرات السورية التي تلت أنهم جزء لا يتجزأ من الوطن السوري، فقد صدر عن المؤتمر السوري الأول الذي عقد في فندق عمر الخيام بدمشق في أيلول/سبتمبر 1919، الوثيقة المُتعلقة بفلسطين، حيث أصر ممثلو الإقليم الفلسطيني في المؤتمر على وضع العبارة الآتية: “نطالب باستقلال وطننا السوري بحدوده المعروفة قبل تقسيم سايكس ــ بيكو، وفلسطين إقليمه الجنوبي، استقلالًا تامًّا لا شائبة فيه”.
إن تفاعلات ما حصل في فلسطين بعد تكريس مفاعيل سايكس ـــ بيكو، وسطوة الانتدابين الفرنسي والبريطاني على كل بلاد الشام، أدّت لسريان الإشارة إلى الفلسطينيين، كحال لبنان، وشرق الأردن، كمجموعة سكانية في إقليم مُنفصل، سعيًّا من بريطانيا وفرنسا لتكريس حقيقة وعد بلفور، وإحداث التغيير الديمغرافي على أرض فلسطين لخدمة المشروع الصهيوني.
إن تلك التطورات، دفعت بأعداد وافرة من النُخب الفلسطينية، لانتهاج طريق المواءمة بين بناء الكيان الفلسطيني الذي بدأ يتشكّل لقطع الطريق على مشروع إقامة كيان صهيوني، وبين الارتباط بالمشروع القومي العربي، مع الوطن الأم سوريا على وجه التحديد.
بدأ الكيان الفلسطيني يتشكّل من خلال حكومة فلسطين، التي وإن كانت تحت سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين، فقامت مؤسسات الكيان، واستطاعت حكومة فلسطين أن تقطع شوطًا هامًّا في هذا المضمار من إنشاء تجسيدات الدولة على الأرض: الحكومة، الوزارات، السلطات والهيئات المدنية والبلديات، دوائر النفوس والسجلات الحكومية، سلطة النقد وصك العملة الوطنية، والبنوك، سلطة التعليم في كل المراحل بما في ذلك التعليم الجامعي في القدس ويافا وحيفا، سلطة السكك الحديدية والمواصلات التي كانت تربط فلسطين مع محيطها بما في ذلك مع مصر والسعودية … الخ. ولكم أن تعودوا إلى مئات الدراسات التي تحدثت عن فلسطين وازدهارها قبل النكبة…
انهارت حكومة فلسطين، مع النكبة الكبرى، ولم يكن من أمر سوى العودة لإحياء وإنقاذ ما تبقى، فكان إعلان قيام حكومة عموم فلسطين كامتداد للحكومة الفلسطينية، فتم تشكيلها في قطاع غزة 23 أيلول/سبتمبر 1948 برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي.
إن وقائع المسيرة الكفاحية الفلسطينية، وولادة الكم الهائل من التعقيدات التي أحاطت بالقضية الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، دفعت لبروز الدور الفلسطيني الخاص من خلال الثورة المعاصرة مطلع العام 1965، وما سبق ذلك من اعتمالات.
سعى الفلسطينيون، في رؤيتهم بعد النكبة، للتمسك بأهمية السعي من أجل تحقيق بناء الدولة الوطنية الفلسطينية باعتبارها تقطع الطريق على مشروع إنهاء الهوية الوطنية الفلسطينية وشطبها وتذويبها. فقد شهدت الساحة الفلسطينية، نقاشات متعددة برزت، برز فيها ما يتعلق بتحديد الأهداف الآنية التكتيكية للنضال الوطني الفلسطيني والأهداف الاستراتيجية، خصوصًا بعد العام 1968 عندما طرحت حركة فتح رؤيتها ومشروعها لبناء دولة ديمقراطية علمانية على كامل التراب الوطني الفلسطيني، وتزاحمت النقاشات إياها بعد حرب أكتوبر 1973 عندما وقع التحول المفصلي الأول، فبدأ الحديث يتواتر عن إمكانية تحقيق تسوية في المنطقة انطلاقًا من القرار 242، وبناء دولة فلسطينية فوق الأرض المحتلة عام 1967م. ولكن التحول المفصلي الثاني الجديد في الرؤية والنقاشات بدأ بعيد الانتفاضة الفلسطينية الأولى الكبرى، التي اندلعت شراراتها من مخيم جباليا في قطاع غزة أواخر العام 1987، فتصاعد الجدل الداخلي الفلسطيني الذي تغذى وزاد منسوبه بانطلاق الحركة الإسلامية في فلسطين واندماجها في العمل المباشر ضد الاحتلال التي أعلنت برنامجًا، ويدعو لبناء الكيان الفلسطيني على كامل أرض فلسطين التاريخية كامتداد للأمة الإسلامية، انطلاقًا من أن فلسطين (أرض وقف إسلامي لا يحق لأحد، كائن من كان، بالتنازل عن شبر منها).
فقد بدا من حينه وإلى الآن، أن ثلاثة نماذج تسوية شكلت ما يمكن أن نسميه (برنامج) للحل الفلسطيني، وإن بدت هذه النماذج مختلفة في الكثير من التفاصيل إلا أنها تتقاطع أيضًا مع بعضها عبر الرؤية البعيدة التي تنادي بفلسطين الكاملة وطنًا حرًّا وأبديًّا للشعب الفلسطيني. والنماذج الثلاثة هي “حل الدولة الديمقراطية” العلمانية الموحدة على كامل أرض فلسطين التاريخية، وحل الدولة الواحدة، وحل الدولتين.
بدأت حركة فتح عبر أدبياتها ومنذ انطلاقتها فجر الفاتح من يناير 1965 بالحديث عن تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني. وقدمت بدايات العام 1968 دعوتها لإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية موحدة.
أما مشروع الدولة الديمقراطية العلمانية الموحدة، فكان قد طرح من قبل بعض القوى اليسارية عام 1969، وهو في حقيقته يشكل في جذره الأساسي برنامج الجناح التجديدي من الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) الذي بات منذ النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بأغلبية عربية بعد أن خرج منه الجناح الصهيوني بقيادة شموئيل ميكونيس تحت اسم (سياح). ومن المنطقي القول بأن برنامج الدولة الديمقراطية العلمانية الموحدة يتلاءم وينسجم مع فلسفة حزب راكاح الاجتماعية وجذوره الطبقية، باعتباره يضم عربًا ويهودًا داخل حدود العام 1948، وأضحى في حينه الكاتب الفلسطيني والأديب إميل حبيبي عضو المكتب السياسي لحزب راكاح دائم الحضور في أدبيات فصائل اليسار الفلسطيني في عقد أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن المنصرم.
لكن التطورات التي أعقبت حرب أكتوبر 1973 دفعت حزب راكاح وبعض فصائل المقاومة الفلسطينية لبناء رؤية جديدة وإعادة إنتاجها عبر تبني مفهوم المرحلية في النضال الفلسطيني، وتحديد الأهداف الكفاحية للنضال الوطني الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة فوق الأرض المحتلة عام 1967، والذي ما لبث أن أصبح برنامجًا رسميًّا تبنته منظمة التحرير الفلسطينية بالدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في القاهرة في مايو 1974م.
وفي هذا السياق من الانتقالات التدريجية، بدأ يتبلور مفهوم حل الدولتين منذ أواخر العام 1988، وتحديدًا بعد الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني التي عقدت في الجزائر وكانت الانتفاضة الفلسطينية في أوج تصاعدها، فتم طرح مشروع حل الدولتين استنادًا لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهو أمر تحفظت عليه غالبية قوى وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ولم تصوت إلى جانبه سوى حركة فتح ذات الأغلبية في المجلس الوطني ومعها جماعة حواتمة والحزب الشيوعي الفلسطيني (حزب الشعب الفلسطيني حاليًّا)، بينما اتخذت كل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وجبهة التحرير الفلسطينية، وجبهة التحرير العربية موقفًا رافضًا للمشروع، وغابت عن أعمال المجلس في حينها كما هو معروف كل من الجبهة الشعبية/القيادة العامة، ومنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة).
وقد أخذ مفهوم حل الدولتين بالتبلور أكثر فأكثر بعد الخطاب التاريخي الذي ألقاه ياسر عرفات في دورة أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة التي التأمت في جنيف بعد أن رفضت الولايات المتحدة إعطاء تأشيرة دخول لياسر عرفات، وفي الخطاب المذكور أعلن ياسر عرفات قبوله بالشروط الثلاثة المعروفة، ودعا بعد إعلانه قبولها دعوته لحل الدولتين، وتم في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988 للإعلان عن قيام دولة فلسطين خلال اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر الذي أقيم في الجزائر على الأرض الفلسطينية وعاصمتها القدس لكن الدولة لم يتم الاعتراف بها في حينها من قبل الأمم المتحدة، كون هذه الدولة واقعة تحت الاحتلال، وهو ما يجعلها عمليا غير قادرة على ممارسة دورها السيادي المتعارف عليه بين الدول. إلى حين تم الاعتراف الأممي بدولة فلسطين كعضو مراقب في هيئة الأمم المتحدة بتاريخ 29-11-2012 بعد أن حصلت فلسطين على أصوات 138 دولة واعترضت 9 دول وامتنعت 41 دولة عن التصويت لتصبح فلسطين العضو الـ194 في هيئة الأمم المتحدة.
وفي الفترات الأخيرة، بدأ الحديث عن حل الدولة الواحدة التي يحلو للبعض بتسميتها (الدولة الموحدة ثنائية القومية)، من قبل بعض المثقفين الفلسطينيين واليهود داخل المناطق المحتلة عام 1948، ومن قبل بعض المثقفين الفلسطينيين في الشتات في سوريا والولايات المتحدة بشكل رئيسي.
الجمعة 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2016
الدولة الوطنية في الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر
بقلم: علي بدوان
الجمعة 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2016
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
67 /
2473041
ar أقلام wikipedia | OPML OPML
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.19 + AHUNTSIC
21 من الزوار الآن