تناولنا فى مقال سابق بعنوان "انتخابات بالاكراه"، حزمة السياسات التى أدت الى تأميم الحياة السياسية والانفراد بالسلطة الى ما شاء الله، واليوم سنتناول جانباً آخر من المشهد: سنلجأ فيه الى ابسط قواعد المنطق والتحليل الموضوعى، لعمل حصر بالمتضررين من حكم السيد عبد الفتاح السيسى والرافضين، لأسباب وطنية أو طبقية واقتصادية أو دستورية أو حقوقية، للكثير من سياساته وقراراته على امتداد السنوات الأربع الماضية، والذين يشكلون معا ما يمكن ان نطلق عليه خرائط الغضب فى مصر:
1) عشرات الملايين من الفقراء الذين ازدادوا فقرا بعد قراراته الاقتصادية بتنفيذ تعليمات وروشتات صندوق النقد الدولى بتعويم الجنيه وتخفيض قيمته الى أكثر من النصف مع الغاء الدعم ورفع الاسعار.
2) ومعهم بالطبع عشرات الملايين الأخرى من الطبقات المتوسطة الذين تدهورت مستويات معيشتهم وانكمشت مدخراتهم لأكثر من النصف تقريبا لذات الاسباب، وانتقل العديد منهم الى مرتبة الفقراء.
3) غالبية الملايين الذين شاركوا فى ثورة يناير، ثم رأوا السيسى ونظامه يعاديها ويجهضها ويقضى على مكتسباتها ويصادر حرياتها ويطارد كل من شارك فيها ويكمم أفواههم.
4) غالبية الملايين الذين ذاقوا طعم الحرية والانتخابات الحقيقية النزيهة لأول مرة فى حياتهم، ووقفوا بالساعات فى طوابير الاقتراع بعد ثورة يناير، ثم شاهدوا ما آلت اليه الأمور اليوم، من العودة الى عصور الـ 99 %.
5) كل المؤمنين بالحق فى التظاهر بعد أن تم حظره وتجريمه. وكذلك غالبية الملايين الذين افترشوا ميدان التحرير وباقى شوارع وميادين مصر، بعد أن أُغلقت امامهم وحرمت عليهم.
6) ملايين المصريين الوطنيين الذين رفضوا التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير المصريتين لمملكة آل سعود، والسير فى ركابها.
7) كل من يرفض اخلاء الحدود الدولية وشمال سيناء وتهجير سكانها، لإقامه المنطقة العازلة التى كانت اسرائيل تطلبها منذ سنوات طويلة وكان مبارك يرفضها، وعلى رأسهم بالطبع أهالي شمال سيناء الذين تم تهجيرهم من مساكنهم لاقامة هذه المنطقة.
8) كل من يحرص على احترام الدستور والقانون وعلى قيم العدل والفصل بين السلطات، والرقابة القضائية والبرلمانية على السلطة التنفيذية، الذين تأذوا بشدة مما يروه من انتهاك يومى لمواد الدستور وتجميد لأحكامه ونصوصه، وما يشاهدوه من الضرب عرض الحائط بأحكام المحكمة الادارية العليا ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية.
9) كل الذين كانوا يحلمون ببرلمان حقيقى يعبر عن جموع المصريين ويحمى مصالحهم ويحافظ على حرياتهم وحقوقهم فى مواجهة تغول السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية.
10) وكذلك كل الرافضين لهيمنته على السلطة القضائية وتسييس احكام القضاء وأحكام الادانة والاعدام بالجملة والحبس الاحتياطى الى ما شاء الله بالمخالفة لأحكام القانون. وعلى رأسهم غالبية القضاة، الذين يتألمون فى صمت من تدخل السلطة التنفيذية فى شئونهم والضغط عليهم وتجريدهم من حقهم فى اختيار رؤساء هيئاتهم ليتم تعيينهم بقرارات يصدرها رئيس الجمهورية.
11) ملايين من طلبة الجامعات الذين حُرم عليهم العمل السياسى، لتعود الجامعة لتكون سجنا كبيرا تحت ادارة ورقابة وهيمنة الاجهزة الامنية، ومعهم ألاف الاساتذة والعاملين فى هيئات التدريس الذين إُنتزع منهم حقهم فى انتخاب عمداء كلياتهم ورؤساء جامعاتهم التى عادت مرة أخرى لتكون بالتعيين.
12) كل الاقتصاديين الوطنيين الذين يرفضون اغراق مصر فى الماكينات الجهنمية للقروض والديون الخارجية وفوائدها، مما يفقد مصر ما تبقى من استقلالها ويثقل كاهل الاجيال الحالية والقادمة بأعباء لا قبل لهم بها.
13) وكذلك كل رجال الاعمال الذين يعانون من اقتحامه لقطاعات الانتاج والأعمال ومنافستهم فى ارزاقهم ومجال أنشطتهم والاستحواذ والاحتكار والسيطرة على الاسواق المصرية، لأهداف ربحية رأسمالية بحتة وليس من منظور الاشراف والتنظيم والحراسة وفقا لدور الدولة فى النموذج الرأسمالي، أو حتى من منظور الادارة والتخطيط وفقا لنموذج التنمية الاشتراكي.
14) كل المفكرين والشخصيات العامة المستقلة التى نأت بنفسها طول عمرها عن مهادنة اى سلطة ونفاق أى رئيس، الذين يشاهدون اليوم اعادة الانتاج الفجة لأنظمة الفرعون والزعيم الأوحد.
15) كل المثقفين الذين يتأذون بعد كل خطاب او كلمة يلقيها، من مستوى الافكار وتهافت المنطق وضعف اللغة وفقر المفردات وكارثية الارتجالات.
16) كل من يعلم قيمة مصر وقدرها، الذين تأذت كرامتهم الوطنية بشدة حين سمعوا الكلمات المهينة لمكانة مصر فى تصريحاته مع الرئيس الامريكى او الرئيس الفرنسى. وكل من شاهد صورته وهو يقف مع الواقفين خلف الرئيس الامريكى الجالس وحده، وكأنه واحدا من حاشية البيت الابيض.
17) كل من يدرك مكانة مصر وريادتها العربية، حين شاهد فضيحة سحب بعثتها الدبلوماسية لقرار ادانة المستوطنات الاسرائيلية من مجلس الامن بناء على تعليمات السيسى بعد مكالمة تليفونية مع ترامب. وكذلك كل الذين امتعضوا من خطابه الأخير فى الأمم المتحدة، حين أشاد بنتنياهو بأنه رجل سلام، بينما شوه الفلسطينيين وطالبهم بإثبات مصداقيتهم فى الرغبة فى السلام وكأنهم هم الجناة وليسوا الضحايا. وكذلك كل من يكره اسرائيل ويحب فلسطين، ويرفض التنسيق والتحالف المصرى الاسرائيلى ويرفض لقاءاته السرية مع نتنياهو. وكذلك كل الذين شاركوا فى اغلاق مقر السفارة الاسرائيلية فى 9/9/2011، بعد أن رأوا السيسى يعيد فتحها فى ذات يوم اغلاقها فى 9/9/2015، فى مكايدة مصرية رسمية مع اسرائيل ضد ثورة مصر وشبابها.
18) كل الغاضبين من قرار ترامب بأن القدس عاصمة لاسرائيل، الذين يشكون فى وجود تواطؤ رسمى مصرى سعودى خليجى مع الادارة الامريكية لتمرير هذا القرار وامتصاص وتصفية الغضب الشعبى العربى فى مواجهته.
19) كل المؤمنين بقيم المساواة والتواضع وهم يشاهدونه يتفاخر بنفسه وبعبقريته وبفلسفته وتميزه عن باقى خلق الله، وكذلك كل المحبين للصدق والصادقين، حين يسمعونه يعيد ويكرر ادعاءات لا تمت للحقيقة بصلة.
20) وعلى المستوى السياسى، غالبية عناصر التيار الليبرالى وكل الأحرار المؤمنين والمدافعين عن حقوق الانسان وحرياته بعد ان شاهدوا العدوان اليومى عليها.
21) غالبية عناصر التيار الاشتراكى وكل المدافعين عن حقوق الفقراء والمطالبين بالعدالة الاجتماعية بعد ان شاهدوا الاستسلام الكامل لشروط الرأسمالية العالمية وممثليها من صندوق النقد والبنك الدوليين وتنفيذ اجندتهم الاقتصادية المدمرة فى مصر، كما شاهدوا الانحياز المطلق الى الطبقات الاكثر غنى فى مصر من خلال الاستثمار فى مشروعات مثل العاصمة الجديدة.
22) غالبية عناصر التيار القومى وكل الوطنيين بعد ان شاهدوا عمق العلاقات بينه وبين اسرائيل ونتنياهو ومشاركته فى حصار غزة ومباركته لصفقة القرن التى تسعى لتصفية القضية الفلسطينية ومبايعته على بياض للرئيس الامريكى العنصرى دونالد ترامب.
23) غالبية عناصر التيار الاسلامى الذين يشاهدون محاولاته الحثيثة لاجتثاثهم من الحياة السياسية تماما، بالحظر والاعتقال واحكام المؤبد والاعدام بالجملة.
24) غالبية جبهة 30 يونيو من القوى والشخصيات التى شاركت فى ثورة يناير، بعد أن غدر بهم، وقام بإقصائهم وحصارهم وتشويهم ومطاردة واعتقال شبابهم.
25) مئات الآلاف من عائلات وأصدقاء وزملاء وجيران المعتقلين وضحايا قمع المظاهرات التى بلغت اعدادهم عشرات الآلاف.
26) كل الكارهين لأعمال البلطجة والدولة البوليسية، حين يشاهدون هجمات البلطجية و"المواطنين الشرفاء" والاعتداءات الاجرامية على شباب الثورة ورموزها كما حدث لشيماء الصباغ وهشام جنينية وغيرهم الكثير.
27) كل المفكرين والمتخصصين والوطنيين والخبراء الحقيقيين، حين يتم حظرهم من الكتابة الصحفية والظهور الاعلامى ومخاطبة الراي العام المصرى وتنويره، لحساب حزمة من أردأ وأجهل العناصر الاعلامية الأمنية. وكذلك كل الذين يحترمون عقولهم، حين يرون مدى التدنى والابتذال قى الخطاب الاعلامى والسياسى الموحد والموجه للدولة.
28) كل الرافضين لتوظيف مؤسسات الدولة الدينية وقياداتها فى الازهر ووزارة الأوقاف ودار الافتاء وفى الكنيسة للترويج للسيسى ونظامه.
29) كل الكارهين للإرهاب والإرهابيين، الذين يرون كيف يصنع السيسى بسياساته واستبداده وإجراءاته القمعية حاضنة شعبية للإرهاب.
30) كل الرافضين للعنصرية الغربية التى تعادى الاسلام والمسلمين حين يرونه يردد مقولاتهم العنصرية ويتبنى خطابهم ويتهم 1.7 مليار مسلم بالارهاب علنا فى أحد خطبه بمناسبة المولد النبوى الشريف، ويُلحق مصر بالأحلاف الامريكية الاستعمارية الجديدة تحت ذريعة مكافحة الارهاب.
***
اذا كان ذلك كذلك، فمن اذن كل هؤلاء القوم الذين نشاهدهم كل يوم فى البرلمان وفى الصحف والفضائيات، وفى مؤتمراته التى لا تنتهى، ومن اين جاءت كل هذه التفويضات التى تقدر بعشرات الالاف؟
انهم ببساطة كبار رجال الدولة والعاملون بها وقيادات الاجهزة الامنية وعناصرها ومخبريها وشبكات المصالح المرتبطة بهم، بالإضافة بالطبع الى كل الموظفين الخائفين من اغضاب السلطة أو السائرين فى ركابها طمعا فى عطية او اتقاء لشرها.
هؤلاء موجودون فى كل عصر وفى كل نظام، يدينون بالولاء لكل من يعتلي الكرسى، فان ذهب، غيروا ولاءهم للوافد الجديد فورا، وتسابقوا وتصارعوا على الفوز برضاه وعطاياه.
هؤلاء ليسوا الا قلة قليلة لا تجد لها أثر حين تنتفض الشعوب وتثور، حينها يهرولون الى الجحور، أتتذكرون الحزب الوطنى الديمقراطى.