شُيّع ليلة أمس الخميس، جثمان أحد أجمل الشبان، بهاء عليان، بعد استشهاده يوم 13 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، واحتجاز جثمانه في الثلاجات الصهيونية منذ ذلك الوقت. جاء الدفن بقيود احتلالية، أهمها ألا يشارك أكثر من 25 شخصا في الجنازة. هذا مثوى بهاء الأخير، في القدس، ولكنها ليست الجنازة الأخيرة. يعرف شباب القدس بهاء بنشاطاته لتشجيع القراءة وإقامة سلاسل القراءة البشرية الأكبر في العالم. ثم عرفه شبان الجامعات الفلسطينية، عندما اصطفت الصبايا والشبان، في ساعات قراءة صامتة، في سلاسل بشرية، في الجامعات الجميلة، إحياءً لذكراه، فصار جزءا من ذاكرتهم ومستقبلهم.
عندما وصلتُ العاصمة الهنغارية بودابست، لفتني استخدام اسم "Magyar"، في كل مكان؛ أسماء البقالات، والمطاعم... إلخ. وكنت قد قرأت أنّ أصل سكان هذه البلاد هم قبائل بدوية بهذا الاسم، هاجرت إليها من آسيا. وعندما تحدثتُ مع دليل سياحي، يَصحَبُنا مَشياً على الأقدام، وأخبرنا بلهجة أهل البلاد، عن اسمها الأصلي، أدركت أنه الاسم العربي للبلاد، "المجر"، وأن أجدادنا، أسموها بلاد المجر. وأخبرته بذلك، فَسُرَّ لمعرفة المعلومة.
في أحد تقييمات السيّاح على الإنترنت، للشركة التي جاء منها مرشدنا، ضحك السائح أن دليلهم كان كلما سألوه عن سنة بناء شيء في هنغاريا يقول 1896. إلا أنّ مرشدنا أعلمنا أنّ ذلك كان حملة بناء بمناسبة ألف عام على مجيء المجر للبلاد. كانت ثورة بناء، وما تزال المسارح والتماثيل والمدرجات والمباني والمكتبات هناك.
في المتاحف، هناك تركيز كبير على المذبحة النازية ضد اليهود، وعلى ثورة العام 1956 ضد الحكم الماركسي والسيطرة السوفيتية. وجدتُ نفسي محاطاً بعدة طوابق من الصور الصغيرة باللونين الأبيض والأسود لشهداء تلك الثورة.
تساءلت لماذا يركزون على ثورة 1956 ولا يذكرون انتهاء الحكم الشيوعي العام 1989، ولا يوجد متحف لذلك؟
بدأت الثورة يوم 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1956، بمظاهرات طلابية تضامنية مع حركة احتجاج عمالية وشعبية في بولندا. كان الهنغار عانوا السياسات الدموية القمعية للرئيس السوفيتي ستالين (الذي مات العام 1953)، وصار العمل قسراً بالسخرة، تقريباً، وعمّ الخوف وعدم الثقة بين المؤيدين والمعارضين للشيوعية على السواء. وسرعان ما تحولت التظاهرات لحدث يشارك به مئات الآلاف. ويطوّر طَلبة قائمة مطالب من 16 مطلبا، وينضم بعض العسكر الهنغاري للثورة، ويمزقون الشعار العسكري برموزه السوفيتية، فيصبح هناك ثقب في ملابسهم، وتصبح الملابس والأعلام المثقوبة رمزاً للثورة. لكن عسكراً آخرين واجهوا الجماهير بالقوة. وصارت الجماهير تهتف باسم سياسي يدعى إيمري ناج، تريده رئيساً، وهذا كان عضواً في الحزب الشيوعي، ولكنه إصلاحي لديه بعض الديمقراطية. ومع تدحرج الثورة، وتحولها للسلاح، تطورت لجان للمقاومة وإدارة القرى والأحياء، واضطر الماركسيون لتكليفه بتشكيل الحكومة، فأعلن نظاماً سياسياً تعددياً. وبدا أن الأمور تستتب، حتى دخلت القوات السوفيتية وقمعت الثورة، وعين رئيس وزراء جديد يدعى يانوش كادار، كانت الجماهير نادت بأن يكون قائداً مع ناج، ولكنه انحاز وهرب لموسكو وعاد على ظهر الدبابات السوفيتية، قامعاً الثورة. وأعلن ناج بخطاب إذاعي درامي رفضه الخضوع. ولجأ مع آخرين للسفارة اليوغسلافية، لكنه أُبعد إلى رومانيا، وأعدم العام 1958، بعد أن قتل السوفييت وحلفاؤهم الماركسيون الآلاف، وبعد أن سجن 22 ألف شخص، وأعدم 229، ومنع الآلاف من الدراسة والعمل، وهرب 200 ألف من البلاد، بينما العالم يراقب بصمت.
قاد كادار البلاد حتى العام 1988 عندما أقعده المرض. وكان العالم قد بدأ يتغير، وحدثت ثورة جديدة في بولندا، فلم ينتظر البرلمان الهنغاري امتداد الاحتجاجات كما حدث سابقاً، وتبنى "رزمة ديمقراطية" أدت لانهيار الشيوعية بهدوء، وكأن الثمن دفع سلفاً في العام 1956. ولذلك لا حاجة لمتحف جديد، فما حدث الآن امتداد لذات الثورة، ودليل ذلك الأكبر أنّه في 16 حزيران (يونيو) 1989، أي بعد 31 عاما، خرج مئات الآلاف في جنازة تحمل رفات ناج ودفن في بودابست، ومعه شهداء آخرون، بما يليق بالثورة وبه، وبعد أيام فقط مات كادار، في 6 تموز (يوليو).
يوم يعاد جثمان خليل الوزير من مخيم اليرموك، وتعود جثامين الشهداء، ستكون مسيرة "بهاء" للحضارة، ولثورة تشبه ثورة بناء 1896 المجرية، التي كان بهاء يحلم بشيء يشبهها.
الجمعة 2 أيلول (سبتمبر) 2016
بهاء عليان.. درس من بودابست
احمد جميل عزم
الجمعة 2 أيلول (سبتمبر) 2016
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
75 /
2473041
ar أقلام wikipedia | OPML OPML
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.19 + AHUNTSIC
24 من الزوار الآن