استفاقوا في صباح فلسطيني عادي. فعلوا ما يفعلونه كلما أشرقت الشمس البليدة في المعتقل الكبير. كغيرهم لديهم أسرار صغيرة، لكنها مختلفة. خبأوها تحت ملابسهم الصيفية مع أشياء أخرى لا تُرى بالعين.
مضوا خلف ذاكرة طافحة بتراث نضالي يمتدّ منذ منتصف القرن الماضي ويتواصل كنهر متدفق في أرواح أتعبها الحنين إلى الأرض المغتصبة، وإن كانوا يسيرون على ترابها ويتفيّأون بظلال شجرها ويحملقون في صفاء سمائها ويتنفسون هواءها. ومع ذلك فإنها ليست معهم. إنها صورة أو ظل أو تراب يتسلل من بين أصابع أيديهم وتتكوّم تحت أقدام جنود الاحتلال. أما هم فشهود على الاغتصاب اليومي لفلسطين.
ليسوا من جيل النكبة عام 1948 ولا الهجرة والنزوح عام 1967 ولا الجيل الفدائي ومخيمات التدريب. بل هم عاديون كأيّ فلسطيني يقوم بما يجبره عليه سجانه في المعتقل الكبير مع فرق واحد كبير لا يراه المحتل أو لا يريد وهو تجذّرهم بالأرض، ليست أيّ أرض، وإنما الأرض النظيفة الطاهرة الحرّة بكليتها ولا يسمّم أجواءها أو يدنّس أديمَها أيُّ يهودي جاء من وراء البحار.
من أمّ الفحم جاء ثلاثة جبّارين ينتمون إلى جيل الأرض الذي يتنامى في القرى والأحياء الشعبية وأرصفة الانطلاق لا الانتظار. لا يُصغون إلى أخبار المفاوضات العقيمة التي تجري في الغرف الأميركية و«الإسرائيلية» السوداء. ولا يعلقون الآمال على تسريبات القنوات اليهودية الكاذبة. تجاوزوا مسألة حق العودة أو منحة إقامة دولة هشة فارغة من كل شيء وتعيش على الحسنات، ضمن حدود تُستباح، وأولى وظائف تلك الدولة المزعومة هي تشريع الاحتلال وعنصريته الدينية والأهم تذويب الحلم بفلسطين بين البحر والنهر وطرد الغزاة.
أما استشهاديو فلسطين فقد أعادوا زمنها إلى عصره الذهبي بتصحيح اتجاه البوصلة نحو الجوهر لا القشور التي تستهلك الجهد والوقت في الذل والظلم والقهر الشعبي، بينما العدو المحتل يرسخ الاحتلال ويجذّره في الأرض، تشريعات وقوانين وتضييق أمني وتعسف في التعاطي مع صاحب الأرض.
الاستشهاديون الفلسطينيون نظروا تحديداً إلى ما يجلس عليه العدو مرتاحاً لوضعه المتماسك ووضع الفلسطينيين خصوصاً، والأمة عموماً، الممزق والآيل يوماً بعد يوم إلى الخراب. الجيل الفلسطيني الشاب، يريد، كأجداده من جيل النكبة، الأرض لا الحقوق الإنسانية فقط إلاّ كمحطة أو مرحلة في مسار التحرير وطرد المحتل.
قد لا تكون نتائج عملية الجبّارين كبيرة بالمقياس الكمي أو عدد خسائر العدو البشرية في مقابل استشهاد الشبّان الثلاثة، إلا أنها مذهلة من حيث الدلالة والرمز والأبعاد. فقد أكدت هذه العملية أن فلسطين ما تزال تنمو في نفوس أبنائها ولم يفترسها الذئب في غفلة عن بعض أبناء الأمة. وبالتالي سقطت كل أوهام التطبيع مع الجيل الفلسطيني الحديث الذي أظهر أنه متمسك بهويته كما الأجيال التي سبقته إلى النضال حتى الاستشهاد.
أثبتت العملية البطولية، كذلك، أن الدم الفلسطيني ما زال هو نهر الري الوحيد للأرض التي أجدبتها أملاح مفاوضات التسويات العقيمة. وهذا الدم فحسب هو مَن يعيد اللون البرّاق للنضال الحق والحقيقي، مهما نظّر المنظرون لمقاومات سلمية أو دبلوماسيات تقتضيها محطات سياسية أو مراحل تاريخية أو معينة.
كما أكدت العملية كما سابقاتها التي نفّذها مقاومون في ريعان صباهم، كل المقولات التي تعد بزوال «إسرائيل»، ولكل أسبابه ودوافعه، لكن ما يجمع بينهم هو أن فلسطين عائدة حتماً.