تساءلت أوساط مطّلعة عديدة في الولايات المتحدة عمّا أسفرت محادثات الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو. وهذه التساؤلات نتجت عن قراءات متعدّدة لما حصل ولما تمّ الإعلان عنه وعن قراءات متعدّدة للتصريحات في المؤتمر الصحافي الذي تلا اللقاء بين الرجلين.
معظم صحف الكيان اعتبرت اللقاء نجاحاً باهراً للكيان باستثناء صحيفة «هآرتس» التي كانت متحفّظة تجاه النتائج. أما الصحف الأميركية فأجمعت على «نجاح» المحادثات دون الخوض في تفاصيل ما تمّ الاتفاق عليه. ومعظم التعليقات كانت تصبّ على المؤتمر الصحافي والذي تمّ البناء عليه الكثير من الاستنتاجات التي عكست رغبات أكثر مما عكست واقعاً يمكن الاستناد عليه.
والمواضيع التي تناولتها المحادثات عديدة منها مسار الصراع الفلسطيني الصهيوني والحلول الممكنة، ثم الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران، وأخيراً كيفية مواجهة الأخيرة في منطقة شرق الأوسط.
فبالنسبة للصراع الفلسطيني الصهيوني اعتبر عدد من المراقبين أنّ رئيس وزراء الكيان انتزع «موافقة» الرئيس الأميركي على الاستمرار في عملية الاستيطان الاستعماري مستندين إلى ما صرّح به خلال المؤتمر الصحافي المشترك «أنّ المستعمرات لا تشكّل عائقاً لعملية السلام». غير أنّ الرئيس أضاف أنّ الاستمرار في إنشاء المستعمرات «خارج الحدود» قد تؤخّرها. المراقبون اكتفوا بالشق الأول من التصريح ولم يعيروا أيّ أهمية للشق الثاني. فالمقطع الثاني يؤدّي إلى الملاحظة التالية: أيّ اقتناع الرئيس الأميركي بأنّ الاستمرار في بناء المستعمرات قد تكون له تداعيات على المسار العام للمفاوضات. كما أنّ إضافته العفوية المطالبة «بالتريّث بعض الشيء» تعني وجود ريبة ما من كلّ ذلك. هذا ما أشارت إليه باحثة في مركز حاييم صبّان في معهد بروكنز المرموق الذي يترأسه مارتين انديك. تقول الباحثة سارة يركس إنّ أنصار نتنياهو عليهم ألاّ يفرحوا كثيراً بنتائج المباحثات حيث بدا واضحاً وجود تباينات بين ترامب ورئيس وزراء الكيان.
النقطة الثانية التي أثارت اهتمام المراقبين هي موقف الرئيس الأميركي من حلّ «الدولة أو الدولتين». بعض المراقبين اعتبروا هذا الموقف تراجعاً عن المواقف الثابتة حتى تلك اللحظة للإدارات الأميركية المتتالية التي كانت «متمسّكة» بحلّ «الدولتين». فقد صرّح ترامب بأنه سيقبل بأيّ حلّ يرضي الفلسطينيين والصهاينة. هذا الموقف المستخفّ ظاهرياً بجدّية المسألة يكشف مدى قلّة معرفة الرئيس الأميركي بتعقيدات المشهد وعدم اهتمامه به وإلاّ لكان أكثر جهوزية للتعبير عن موقف متكامل. فكيف يمكن أن يتفق الفلسطينيون مع الصهاينة والمواقف متباعدة إلى أكثر الحدود؟ وما هي الآليات والحوافز التي يمكن إيجادها لإنجاح المفاوضات؟ الموقف الصهيوني يطلب الاستسلام الفلسطيني الكامل ليهودية دولة «إسرائيل»، والتنازل عن القدس، وعدم عودة اللاجئين الفلسطينيين من الشتات، والتنازل عن المزيد من الأراضي؟ وماذا يعود بالمقابل للفلسطينيين؟ السلام من دون الحقوق الأساسية؟ في مطلق الأحوال بات واضحاً أنّ الرئيس الأميركي لا يضع على جدول أولوياته المسألة وهذا قد يرتدّ سلباً على مصالح الكيان. أما على الصعيد العربي، فغياب موقف واضح وحازم من الدول العربية يسهّل عملية الإهمال الأميركي للنزاع القائم رغم التصريحات التي توحي عكس ذلك.
أما صحيفة «هآرتس» فأشارت إلى تحفّظات لعدد من القيادات الصهيونية الأميركية المغايرة للمنظمة الصهيونية في أميركا. فالحاخام جيل جاكوبس، المدير التنفيذي لمنظمة «ترواح» وهي المنظمة الحاخامية الداعية لحقوق الإنسان، اعتبر أنّ ترامب لا يعي تداعيات الدولة الواحدة. أما أوري نير، الناطق بمنظمة يهودية أخرى «من أجل السلام الآن»، اعتبر أنّ المؤتمر الصحافي كان مرعباً للغاية حيث تمّ تفويت فرصة جادة للسلام. وأضاف نير أنّ المسؤولين أضاعا ليس فرصة إحلال سلام فحسب بل أوجدا تهديداً واضحاً لمستقبل الكيان وديمقراطيته عندما طرحا بشكل علني «حلّ الدولة الواحدة». كما أنّ الموقف المستجدّ قد يُشكّل انتصاراً للفئات المتطرّفة عند الفلسطينيين والصهاينة. وأخيراً أشار الحاخام ريك جاكوبس أنّ تصريحات ترامب تناقض التوافق المزمن بين الحزبين الأساسيين في الولايات المتحدة حول «حلّ الدولتين».
ضابط سابق في الاستخبارات الأميركية العسكرية وعلى إطلاع واسع مع المؤسسة الاستخبارية الأميركية وعالم بالوطن العربي، يعتبر أنّ ترامب سيتحدّى المسار الذي تحاول منظمة أيباك الصهيونية فرضه على الإدارة الأميركية. كما يعتقد أنّ حلّ «الدولة الواحدة» يعني نهاية يهودية الكيان وهذا ما لن يقبل به الصهاينة. فمأزقهم واضح: إما يقبلون بحلّ «الدولتين» وبالتالي ينسون حلمهم بـ»إسرائيل الكبرى»، وإما يقبلون بتواجد الفلسطينيين داخل الدولة الواحدة ما يفقدهم زعمهم بـ «يهودية» الدولة. أما الإصرار على «يهودية» الدولة الواحدة فهذا يعني القبول بدولة التمييز العنصري الذي يرفضه المجتمع الدولي والقانون الدولي وحتى الشعب الأميركي.
في ذلك السياق نذكر ندوة أعدّها في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية ضمّت رؤساء مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة منهم مركز ولسون المرموق ومركز التراث هريتاج فونداشن المحافظ. تناولت الندوة توجّهات السياسة الخارجية الأميركية بشكل عام وخلال جلسة الأسئلة والمناقشات سئل توم داين، وهو من المسؤولين المؤسّسين لأيباك ماذا سيكون موقف الإدارة الأميركية تجاه حلّ «الدولة الواحدة» في الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني. أجاب جون هامري، المدير التنفيذي لمركز الدراسات الاستراتيجية الدولية ونيابة عن ايد فولنر رئيس ومؤسس مؤسسة التراث، وجين هارمون المديرة التنفيذية لمعهد ولسون، أنّ حلّ الدولة الواحدة صعب تحقيقه لأنه يعني من وجهة نظر الصهاينة، ومنهم صهر الرئيس الأميركي جارود كوشنير، ترحيل الفلسطينيين من الضفة الغربية ومن فلسطين وراء الخط الأخضر. هذا القرار غير قابل للتطبيق وقد ينذر بعواقب وخيمة لكلّ من الكيان والولايات المتحدة إذا ما دعمت هذا القرار. كما أضاف جون هامري مع كثير من الانفعال أنّ سياسة الكيان الصهيوني المتطرفة تنذر بمحرقة نووية قد تطيح بالولايات المتحدة فيما لو أصرّت الحكومة الصهيونية على ضرب الإمكانيات النووية للجمهورية الإسلامية في إيران.
أما آرون دافيد ميلر فيعتبر أنّ العلاقة الودّية بين ترامب ونتنياهو لن تطول. جاء ذلك في مقال مطوّل في موقع «بوليتيكو» الواسع الانتشار بين النخب السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة. ويضيف ميلر أنّ اليمين في الكيان الصهيوني تجاوز الحدود حيث أصبح نتنياهو أسير القوى اليمينية المتطرفة. ويعتقد أيضاً أنّ هذه القوى ستضغط على نتنياهو لاتخاذ قرارات تزعج إدارة ترامب وأنّ احتمال حصول ذلك مرتفعة.
من غرائب الأمور تفويض الرئيس ترامب لصهره جارود كوشنير بمتابعة ملف الشرق الأوسط وخاصة الملف الفلسطيني الصهيوني. هذا يدلّ على عدم معرفة ترامب بتفاصيل الموضوع كما ينذر بالفشل. فمواقف الصهر المؤيّدة للمستعمرين معروفة ولا يمكن تسويقها لا عند الفلسطينيين ولا حتى عند الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة لما تحمل من تخريب صورة الكيان بشكل عام وصورة اليهود في الولايات المتحدة بشكل خاص. وما يزيد التعقيد في الموقف التقلّب السريع في مواقف ترامب ليس فقط من تلك القضية ولكن من مجمل الملفّات. ويعتبر المراقبون والمحلّلون أنّ ترامب بمثابة المدفع الفلتان الذي قد يصنع مواقف غير معروفة النتائج والكلفة. وما سيزيد الطين بلّة وفقاً لميلر هو إمكانية تصادم بين شخصية ترامب وشخصية نتنياهو نظراً لتعقيدات الموقف والضغوط التي يخضع لها كلاهما. لم يحصل تصادم في اللقاء الأول ولكن لا يحبس المراقبون أنفاسهم بالنسبة للقاءات المقبلة.
ومن دلائل سيولة موقف ترامب تراجعه في تنفيذ قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس حيث صرّح بوجود نتنياهو بأنّ المسألة قيد الدرس والاهتمام. فالنقل الفوري للسفارة كما جاء في وعده الانتخابي لم يعد قائماً علماً أنّ القانون على نقل السفارة قد تمّ التصويت عليه من قبل الكونغرس الأميركي ولكن تمّ تعليق التنفيذ لمدّة عشرة سنوات. كما أنّ هناك دليلاً آخر يعكس خفّة ترامب في اتخاذ القرارات. فبمقدار ما أسرع في تسمية دافيد فريدمان سفيراً لدى الكيان، وهو المدافع عن المستعمرين داخل فلسطين المحتلة، غير أنه حتى الآن لم يعرضه على مجلس الشيوخ للموافقة عليه! فعلى ما يبدو سقطت حقيقة التداعيات على ترامب ما جعله يتريّث وما ينذر بالتريّث في العديد من الوعود التي قطعها خلال حملته الانتخابية كإلغاء الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
ففي هذا السياق لم تؤدّ محادثات ترامب نتنياهو إلى توافق على إلغاء الاتفاق النووي بل إلى التمسّك به ولكن مع زيادة العقوبات على إيران. ليس من الواضح إذا شكّل ذلك الموقف تحوّلاً في موقف نتنياهو نكاية بالفئات المتطرّفة داخل حكومته، أما أنّ «الواقعية» كانت الدافع للعزوف عن المطالبة بإلغاء الاتفاقية مع إيران. لكن التشدّد على فرض المزيد من العقوبات كان الموقف المشترك الذي يحظى أيضاً بموافقة الكونغرس الأميركي بشكل شبه إجماعي. سلوك نتنياهو ليس مدفوعاً بمواقف مبدئية بل بحسابات ضيّقة سياسية داخلية. فتنفيذ الأجندة المتطرّفة صهيونياً قد يفيد منافسيه كنفتالي بينيت أكثر مما يفيده هو خاصة أنه يخوض معارك قانونية تتناول فساده في أمور عديدة. فنتنياهو غير منزعج من عدم تحقيق نجاحات كبيرة استعراضية تصبّ في أجندة المستعمرين الصهاينة لأنّ ربما الظرف الداخلي في الكيان ليس لمصلحته في هذه اللحظة. قد تتغيّر الأمور في ما بعد، وبالتالي قد تأتي المواجهة مع جماعته ومع الإدارة الأميركية إذا اعتقد أنها تخدم مصالحه.
تشيّع أوساط صهيونية وعربية أنّ ترامب ونتنياهو اتفقا على محاصرة الجمهورية الإسلامية في إيران عبر تجنيد تركيا وبعض الدول العربية «السنّية المعتدلة». فـ «الاعتدال» عندهم هو عدم معاداة الكيان بل معاداة إيران وعدم الاهتمام بالفلسطينيين. كما أنّ محاصرة إيران تتضمّن زيادة الضغوط على حزب الله عبر «تجفيف منابع التمويل». لذلك وجدنا تغييراً جديداً في الموقف التركي في الملف السوري ميدانياً وسياسياً حيث اتهمت تركيا الجمهورية الإسلامية في إيران «بدعم الإرهاب» مردّدة مقولة الكيان وبعض الدول العربية. أما ميدانياً فانسحاب قوات داعش من مدينة الباب في شمال سورية لم يحصل نتيجة معارك بل مفاوضات بين الحزب الإسلامي التركماني وداعش لمصلحة تقدّم قوّات درع الفرات، خاصة بعد الإخفاقات العسكرية لتلك القوّات! وعودة التفجيرات إلى مدينة حمص تؤكّد أنّ الدول الراعية للإرهاب بدأت جولة جديدة من تقويض السلم الذي أنجزته الدولة السورية في المدينة وغيرها من الأماكن من مصالحات مع مكوّنات كانت خارج إطار الشرعية الوطنية.
كما أنّ التغيير في المشهد السوري انعكس مجدّداً سلباً بشكل مفاجئ على التقدّم في ملف قانون الانتخاب في لبنان ما أعاد جميع الفرقاء السياسيين في لبنان إلى المربّع الأول، وكأنّ التقدّم بهذا الملف مرتبط بالتطوّرات الإقليمية بشكل عام وفي المشهد السوري بشكل خاص. فمحاصرة إيران عبر المربّع الصهيوني التركي «العربي السنّي المعتدل» والأميركي يشبه إلى حدّ كبير حلف بغداد جديد مع الفرق أنّ إيران الشاه كانت العمود الفقري لذلك الحلف. أما اليوم فالحلف الجديد هو لإسقاط إيران والمحور المتحالف معها وذلك لحساب الكيان الصهيوني. لكن أين مصر؟ وأين الأردن؟ وكيف ستواجه الجمهورية الإسلامية وحلفاؤها العرب، أيّ محور المقاومة، ذلك الحلف؟ هذا هو عنوان المرحلة المقبلة في المنطقة.
هذا إذا ما اعتبرنا أنّ الحلف المذكور حقيقة قائمة أو قابلة للاستمرار. بعض الباحثين العسكريين الصهاينة لا يشاطرون ذلك الرأي. فالصحيفة الإلكترونية «رأي اليوم» نقلت عن مراسلها في الناصرة أنّ الرئيس السابق لإدارة المفاوضات مع الفلسطينيين الجنرال أودي ديكل، والذي يعمل الآن كباحث في مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، اعتبر في دراسة له أنّ ترامب لن يوافق على مطالب تل أبيب حول سورية. فالباحث يعتبر أنّ التناقضات في سياسة واشنطن وتل ابيب ما زالت بارزة وواضحة في مقدّمتها الملف السوري. فالخطوط الحمراء التي وضعتها حكومة تل أبيب في المشهد السوري لن تأخذ بها الإدارة الأميركية الجديدة. ويضيف الباحث أنّ أي حلف يضمّ «إسرائيل» غير مرغوب حتى في الحلف ضدّ داعش الذي تحاول تثبيته حكومة تل ابيب كذريعة لتطويق سورية، وذلك لأنّ «إسرائيل» غير مقبولة قانونياً من قبل الدول العربية والشارع العربي طالما لم تُحلّ القضية الفلسطينية. فالترويج الصهيوني لتحالفات مع بعض الدول العربية قد لا يجد صدى في الشارع العربي.
ويختتم الباحث بالقول إنّ الكيان يتحوّل تدريجيا من كنز استراتيجي للولايات المتحدة إلى عبء استراتيجي. ويضيف أنّ المؤشرات تدلّ أنّ الرئيس ترامب لن يتوّرع عن الوقوف ضدّ «إسرائيل» على حدّ تعبيره. يشاطره في ذلك الرأي المسؤول الاستخبارات العسكري الأميركي السابق الذي أشرنا إليه أعلاه. فالتوافق في العلاقة الشخصية القائم بين ترامب ونتنياهو قد لا يدوم خاصة أنّ ترامب يتصرّف بعقلية الصفقات الآنية وليس بعقلية تتبنّى الاستراتيجية المتوسطة أو الطويلة المدى.