تناقلت وسائل إعلام عربية يوم الجمعة الماضي ما أعلنته وزارة الداخلية «الإسرائيلية» بأن «إسرائيل» ستقوم باستقبال مئة يتيم سوري والمساعدة في إجراءات تبنيهم، وسيحصل اليتامى على إقامة دائمة بعد إقامتهم مؤقتاً لفترة أربع سنوات، بينما سيحصل أقاربهم من أخوة وأخوات على وضع لاجئ، وتبحث السلطات «الإسرائيلية» عن عائلات عربية في الداخل الفلسطيني لتبنّي هؤلاء الأطفال.
خبر يظهر الإرهابيين «الإسرائيليين» بمظهر إنساني، ولكن بحسبة بسيطة، فإن العدد سيصبح في مستوياته الدنيا ثلاثمئة شخص، وهؤلاء سيتحولون مع الزمن - في حال بقيت «إسرائيل» - إلى مواطنين مخلصين منتمين يتحدثون اللغة العبرية وربما يتحولون إلى الديانة اليهودية، وربما تضمهم إلى جيشها الذي يخطط قادته إلى بناء «إسرائيل» الكبرى، وقد يجدون أنفسهم في مواجهة أبناء عمهم وأقاربهم وأخوتهم، فيقتلونهم أو يأسرونهم أو يهدمون بيوتهم، وقبلها سيحاربون الفلسطينيين ويتحولون، كما تحول «اللحديون» إلى مجرمين وعملاء وقتلة. وما الإعلان عن البحث عن عائلات عربية لتبني اليتامى السوريين، في إشارة إلى أنهم سيعيشون ويشبون في بيئة عربية، ما هو إلا تصريح خبيث ولئيم الهدف من ورائه تخدير ردود الفعل وتقبّل الأمر على أنه أمر إنساني بحت.
لعل هذا الخبر يعيدنا إلى رواية الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، الذي اغتالته الاستخبارات «الإسرائيلية» في العام 1972 في بيروت ومعه ابنة أخته بتفجير سيارة حولتهما إلى أشلاء. واسم الرواية «عائد إلى حيفا». يتحدث فيها كنفاني عن عائلة فلسطينية نسيت ابنها في العام 1948، تاريخ حدوث النكبة الفلسطينية التي أدت إلى قيام «دولة «إسرائيل»، وحين عادت أسرة الطفل للبحث عنه وجدته قد نشأ في بيت «إسرائيلي»، والتحق بالجيش وينادي على المرأة التي ربته (أمي)، وحين دخلت أمه الحقيقية البيت الذي كبر فيه وقابلته، كانت ردة فعله باردةً وحيادية، وكذلك كان شعور أمه الحقيقية استنكارياً، فقد وجدت أمامها شاباً يرتدي لباس الجيش «الإسرائيلي» ويتصرف كيهودي، فعادت الأم الحقيقية خالية الوفاض.
لعل غسان كنفاني أراد أن يوصل رسالة أبعد من قصة أمٍّ تركت ابنها في زحمة الفوضى والموت والرحيل والمذابح والهزائم والخيانات، وأبعد من الفكرة الجدلية من أن الأم هي التي تربي وليست التي تلد، كان يرمي ربما إلى التهويد الذي تقوم به «إسرائيل» بطرق مباشرة والتوائية، والتهويد لا يعني هنا أن يتحول الفلسطينيون إلى يهود، وإنما تغيير في أسس الانتماء، يتحقق مع مرور الزمن، ومع دمج المجتمع الفلسطيني العربي بالمجتمع «الإسرائيلي».
صحيح أن الفلسطينيين الذين لم يغادروا وطنهم في العام 1948 يحتفظون حتى اليوم بهويتهم العربية والإسلامية، ويناضلون بطرقهم الخاصة للتمسك بعناصر تلك الهوية، ومنهم من استشهد في سبيلها، إلا أن جزءاً منهم بدؤوا بالذوبان في المجتمع «الإسرائيلي»، فهم يتحدثون اللغة العبرية بطلاقة، وهناك شرائح تنظر إلى الشخصية «الإسرائيلية» كما ينظر المواطن العربي إلى الشخصية الأمريكية أو الفرنسية أو الإنجليزية؛ نظرة إعجاب، خاصة أن الدول التي تحيط بهم لم تحقق التنمية الإنسانية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية، ولم توفر لمواطنيها حرياتهم في التعبير، إضافة إلى الحريات الشخصية الأخرى، ولم توفر لهم الضمان الاجتماعي والتقاعد والتعليم والرعاية الصحية بالمستوى الذي يتمتعون به. ونحن هنا نذكر الوقائع ولا نروّج لأي فكرة استسلامية.
صحيح أن «إسرائيل» لا تحتاج إلى مئة يتيم سوري لتضمهم إلى جيشها أو أجهزتها الأمنية، لكنها تنتهز فرصة الخراب الإنساني قبل السياسي، الذي تعيشه الدول التي وقعت في فخ الديمقراطية، الذي نصبه الغرب والكيان الصهيوني، وموهوه بـ«ربيع عربي» محترق، ليتبجحوا أمام العالم بأنهم إنسانيون يحتضنون اليتامى، بينما خلفت حروبهم عشرات الآلاف من اليتامى الفلسطينيين جراء مذابحهم التي بدأت منذ أكثر من ثمانين عاماً وتستمر حتى يومنا هذا، وهم يسهمون بطريقة أو بأخرى في تأجيج الحروب الأهلية في دول الجوار وغير الجوار، وإشعال الفتن الطائفية والعرقية بين العرب، وهم يعرفون ماذا يعني الصراع الطائفي والعقائدي، ويعرفون أنه إذا اشتعل فإنه يحتاج إلى عشرات السنين لينطفئ. ورغم ذلك جاء في بيان الداخلية «الإسرائيلية» عن تبنّي الأيتام السوريين، أن «إسرائيل لا تريد التورط في النزاع المعقد الدائر في سوريا منذ أكثر من خمس سنوات» لكنها في الوقت نفسه تقوم بمهاجمة الجيش السوري وقصف منصات الصواريخ، وتستضيف الجرحى من التنظيمات المسلحة المصنفة «إرهابية»، وتقوم بعلاجهم وإعادتهم ليواصلوا القتال.
لن نناشد المنظمات الإنسانية العربية ولا المجتمع المدني ولا الدول العربية ولا الإسلامية لمنع سفر مئة يتيم سوري وأخوتهم وأخواتهم وربما أقاربهم من الدرجة الثانية إلى الكيان الصهيوني، لأن بعض تلك المنظمات قامت بجزء من واجباتها، لكننا نناشد - ولا نملك إلا هذا الفعل - بوقف الصراع الذي حوّل الكثير من المدن إلى ركام، وملأ العالم باللاجئين والمهجّرين والمعاقين، والاستعداد الإنساني الحقيقي لمرحلة ما بعد الصراع، لأن السلام سيكشف الفجائع والفظائع الحقيقية التي خلفتها الحرب.
الاثنين 30 كانون الثاني (يناير) 2017
«إنسانية» العدو
د. عبدالله السوبجي
الاثنين 30 كانون الثاني (يناير) 2017
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
14 /
2473041
ar أقلام wikipedia | OPML OPML
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.19 + AHUNTSIC
21 من الزوار الآن