منذ بدء الصراع على فلسطين، الذي لا نرى وفق فهمنا لطبيعته أولًا، ولأخذنا بالحسبان لحقائق التاريخ وقدرية الجغرافيا ثانيًا، أو مُتحتِّميهما معًا، إمكانيةً لحسمه، وطال الأمد أم قصر، إلا لصالح العرب الفلسطينيين، وأن لا نهاية له بالضرورة إلا بتحرير كامل فلسطين التاريخية والعودة لكاملها… منذ بدايته، وهناك استراتيجية صهيونية واحدة قام عليها المشروع الصهيوني وسار على هديها ولم ولا في وارده أن يحد عنه، تخدمها سياسات وسبل تنفيذية مختلفة، أو تكتيكات تتفق وتتواءم مع متطلبات المراحل التي يمر بها هذا الصراع، وتُنفَّذ اتساقًا مع الممكنات وما تسمح به الظروف المواتية، بمعنى ما تمكِّن منه القدرة وتسهِّله تعثرات مواجهته من قبل الخندق المقابل. هذا إلى جانب الاعتبارات الدولية، التي إن هي الراعية والمساعدة غالبًا فليست المعيقة مطلقًا.
من أسف، نحن هنا نتحدث عن أبجديات من المشين أن نضطر للتذكير بها، ويجبرنا عليه حالة فلسطينية بائسة معطوفة على أخرى أكثر وأعم بؤسًا هي العربية، وفي مثل هاته المرحلة بالذات غير المسبوقة في كل هذا الانحدار والتردي، بسبب من انعدام المناعة وغياب الإرادة السياسيتين، وما يتبع بالضرورة من دونية تتجلى في انهزامية حلت، ويا للعجب، محل ما كان يفترضه ويحض عليه هكذا منعطف وجودي خطر يتهدد قضية بحجم القضية الفلسطينية، وبالتالي، مصائر أمة بكاملها مُعلَّقة على مآلات استهدافها، أي ضرورة الممانعة والاستنهاض ووحدانية خيار المواجهة… ما هي هذه الاستراتيجية؟
إنها ما يمكن اختصاره في كلمة واحدة هي التهويد… تهويد كامل فلسطين، أو تحقيق مقولة مؤتمر بازل نهايات القرن التاسع عشر، “أرض بلا شعب لشعب بلا وطن”! وبما أن الأرض المستهدفة بالاغتصاب ووضع اليد الاستعمارية عليها لها شعبها الضاربة جذوره عميقًا فيها منذ فجر التاريخ، فلا بد والحالة هذه من تغييبه، أو ما يعني موضوعيًّا إبادته للتخلص منه وتفريغها ليحل القادمون من أكثر من سبعين بلدًا في العالم مكانه. والإبادة هنا تعني بوجهيها المادي والمعنوي. المادي الاستيلاء على الأرض والتخلُّص من إنسانها، والمعنوي مفهوم الوطن، أو الوجود الوطني برمته، وبكافة وجوهه وما يرمز إليه. وهذا بالضبط جوهر ما جرى وتجري محاولته طيلة ما ناهز الثلاثة أرباع القرن، التي أعقبت النكبة الأولى وحتى اللحظة، وبشكل يومي تعددت وتنوَّعت تفاصيله.
من هنا بدأت المقتلة الفلسطينية. كانت النكبة الأولى التي مهَّدت لها ورافقتها سلسلة المجازر المعروفة لطرد الفلسطيني من فلسطينه، وحيث تم الاستيلاء على 78% في المئة منها، وظلت أقلية منه لم يتمكن الغزاة من تشريدها حوصرت في غيتوات، أو شبه معتقلات، أو قرى سلبت أرضها من حولها، وبقايا أحياء في بعض مدن عزلت وضيِّق عليها ونكِّل بها. تلتها النكبة الثانية 1967 واحتلال ما تبقى من فلسطين ليتكرر فيه لفلسطينييه ما حدث في الأولى، ولتتبعها النكبة الثالثة، وهي اتفاقية أوسلو، السليلة غير الشرعية لإثم اتفاقية “كامب ديفيد”، والتي تم التنازل فيها عما سلبته النكبة الأولى واعتبر ما احتُل في الثانية أراضي متنازعًا عليها تم حتى الآن تهويد أكثر من نصفها.
أدمن العالم إحصاءات إعلامه شبه اليومية لأعداد من قتل، أو جرح، أو اعتقل، أو طُرد أو طورد، أو جُرِّفت مزروعاته، ومن قطع زيتونه، أو هُدم بيته وشرِّد من الفلسطينيين، حتى أصبح الأمر عنده عاديًّا، وربما بات المستغرب هو أن يمر يوم فلا يسمعه. لكنما للمقتلة الفلسطينية وجوه أخرى تعددت ويتم السكوت عنها، أو تجاهلها والتغاضي عنها، وأقله عدم الاهتمام بها كمادة إخبارية، رغم أنها لا تقل أهميةً عن الإعدامات الميدانية للمقاومين والناشطين ضد الاحتلال، أو جزء لا يتجزَّأ من سياسات استراتيجية التغييب المراد لهذا الشعب ماديًّا ومعنويًّا، أي وجودًا، المشار إليها، ومنها التالي:
تصوير المقاومة المشروعة للمحتلين إرهابًا ووصم مقاومتهم به، ومحاولة شطب الرواية الفلسطينية للصراع ومحو الذاكرة الوطنية بتصويرها تحريضًا، وتربية شريحة طفيلية من فلسطينيي أوسلو في ظل الاحتلال يتم ربط مصالحها معه، عبر التطبيع الاقتصادي، والاعتماد على أموال المانحين من رعاة الاحتلال في الغرب، والمؤسسات والهيئات الدولية، أو ما يعرف بهيئات ومؤسسات وجمعيات المجتمع المدني، ذات الاستهدافات التطبيعية الخادمة لذات الاستهدافات الاستراتيجية إياها، ودون أن ننسى تقسيم الفلسطينيين في المحتل من العام 1948 إلى عرب ومسيحيين ودروز وبدو وشركس، والتعامل مع كل من هذه التقسيمات كأقلية قومية مختلفة عن الأخرى، ناهيك عن حصار غزة الأكثر من إبادي، وصولًا إلى ترويج ما يعرف بالسيارات “المسروقة”، أو القاتلة التي يتم تهريبها من الكيان للضفة وتفتك حوادثها بسوَّاقها ومستقليها أو من تصادفه في الشارع، وكذا تشجيع المخدرات، وتوفير المبيدات الحشرية المحرَّمة دوليًا والملوثة للبيئة والمدمرة للزراعة… وكله مجرَّد غيض من فيض يصعب هنا حصره.
…والآن، وبعد كل هذا، وعلى امتداد الصراع، هل نجح الصهاينة في إنجاز استهدافات استراتيجية الإبادة متعددة الأوجه هذه؟!
الواقع يقول، والصهاينة يعترفون، بأن الفلسطينيين باقون وباقون، وتقرير مراقب دولتهم، المعدد لإخفاقات مستوييهم السياسي والعسكري ومعهما الاستخباري، في الحرب الثالثة على غزة المقاومة عام 2014 يطرح مسألة وجود كيانهم المفتعل برمته قيد البحث عندما يعتبر الأنفاق خطرًا استراتيجيًّا يتهدده!
السبت 4 آذار (مارس) 2017
التـهويد والإبـادة
عبداللطيف مهنا
السبت 4 آذار (مارس) 2017
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
22 /
2484496
ar أقلام wikipedia | OPML OPML
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.19 + AHUNTSIC
36 من الزوار الآن