انتهت عملية التسوية عملية أوسلو منذ فترة طويلة ماتت العملية ومعها مات حل الدولتين، ربما منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، مع فشل مفاوضات كامب ديفيد – صيف عام 2000 - ورفض إسرائيل حزب العمل تقديم الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به المرحوم ياسر عرفات، أو حتى محمود عباس نفسه، وربما ماتت العملية ومعها الحل أيضاً منذ وصول أرئيل شارون للسلطة – ربيع 2001 - في إسرائيل وتحوله من معادلة دعوا الجيش ينتصر إلى معادلة فك الارتباط، ورسم حدود الدولة العبرية عبر الانفصال من جانب واحد عن الفلسطينيين. أما حقبة أهود أولمرت القصيرة فأكدت الحقائق السابقة مجتمعة لجهة استحالة التوصل إلى حل سياسي، وصعوبة؛ بل استحالة تجاوز ما تعرف بثوابت الإجماع الصهيوني - لا لحق عودة اللاجئين لا لتقسيم القدس لا للعودة لحدود حزيران/ يونيو 67 - وعدم التلاقي بين أقصى ما يطرحه أي مسؤول إسرائيلي، وأدنى ما يمكن أن يقبل به أي مسؤول فلسطيني، بينما جاءت حقبة اليمين الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل حقبة "نتنياهو- ليبرمان- بينيت"، لتثبت وبما لا يدع مجالاً للشك، أن عملية التسوية ميّتة سريرياً، ومعها حل الدولتين، ويحتاج الأمر فقط إلى شجاعة شخصية وسياسية للإعلان رسمياً عن ذلك. وطبعاً استنتاج العبر المناسبة شخصياً وسياسياً أيضاً، ومن ثم وضع الخيارات أو البدائل المناسبة، ومنع مكافأة أو تقديم جوائز لمن تسبب بوصول الوضع إلى ما وصل إليه.
بنظرة إلى الوراء يمكن الادعاء بالتأكيد أن العملية ولدت ميتة أصلاً فمنظمة التحرير الفلسطينية تبنت حل الدولتين في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، بينما كان المشروع الاستيطاني قد تمكن على الأرض، ولو بخطوطه العريضة والأساسية، وبما يمنع قيام دولة فلسطينية بالمعنى الحقيقي والجاد للمصطلح، بينما انطلقت عملية أوسلو بدون مرجعيات وأسس واضحة واستغلتها إسرائيل لاستكمال المشروع الاستيطاني، حيث زاد عدد المستوطنين ثلاثة أضعاف تقريباً منذ أوسلو حتى الآن.
والآن مع وصول دونالد ترامب للسلطة في واشنطن، وتمكن نفتالي بينبت وحزب المستوطنين من مقاليد السلطة بتجلياتها المختلفة في إسرائيل تبدو البيئة وكأنها مناسبة للإعلان الرسمي والسياسي عن موت العملية برمتها، ومعها حل الدولتين طبعاً، إلا أن الشجاعة السياسية والشخصية تبدو غير متوفرة لعدم تحمّل التبعات والتداعيات السياسية الأمنية الاقتصادية الاجتماعية، كما للهرب من تحديد الطرف المعرقل –الإسرائيلي - وتحميله المسؤولية عن تعثر جمود، ومن ثم موت العملية.
بناء عليه، بدأ التحايل والتلاعب بالألفاظ من قبل الجميع للهرب من مواجهة الواقع، حيث نقلت وكالة رويترز عن مسؤول رسمي في البيت الأبيض قوله إن الرئيس ترامب يريد الوصول إلى السلام، وهو لا يتمسك بحل الدولتين حصراً، وإنما هو مع أي حل متفق عليه يوصل إلى الهدف بغض النظر عن الوسيلة والأسلوب وهو نفس الخطاب الذي تبناه ترامب شخصياً فى مؤتمره الصحفى مع رئيس الوزراء الاسرائيلى نتن ياهو فى البيت الأبيض مساء الأربعاء 15 شباط فبراير.
نتن ياهو من جهته، يبدو أكثر حذراً، فهو يتحدث عن حل الدولتين نظرياً مع مطالبة الفلسطينيين بتنازلات استراتيجية وتعجيزية بما في ذلك القبول بالفكرة العنصرية عن الدولة اليهودية وبدولة ناقصة وغير كاملة السيادة والصلاحيات، وتحميلهم مسؤولية عدم التوصل إلى اتفاق سلام، وهو يسعى أيضاً إلى خلط الأوراق عبر الدعوة إلى سلام إقليمي، واتفاقات أو حتى تفاهمات مع الدول العربية قبل مناقشة وحسم الملف الفلسطيني، وتحبيذ العودة إلى أولوية الخطر الإيراني، وخطر مواجهة داعش، وإزاحة القضية الفلسطينية إلى مؤخرة جدول الأعمال الإقليمي والدولي.
نتن ياهو يفكر الآن بشكل استراتيجي تماماً، كما فكّر سلفه أرئيل شارون منذ زمن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، حيث اعتقد شارون آنذاك، وبعد انهيار مفاوضات كامب ديفيد ومعها عملية أوسلو بشكل عام أن الظرف مؤات تماماً لحسم نهائي للصراع، بعد العجز عن فرض الاستسلام على الفلسطينيين وإخضاعهم في الميدان، حيث تم التفكير في رسم حدود إسرائيل بشكل أحادي، ووفق مصالحها عبر ما تعرف بخطة الانفصال والانسحاب من طرف واحد من غزة. وكان يفترض أن تتوسع العملية بعد ذلك إلى الضفة الغربية ووفق حدود الجدار الفصل التي وضعت بمنظار أمني لتبتلع نصف الضفة الغربية تقريباً، وتترك الفلسطينيين مع حكم ذاتي موسّع أو زائد، وبالتأكيد في كيان أقل من دولة كاملة السيادة.
يفكر نتن ياهو بطريقة مشابهة مع اختلاف في التفاصيل والآليات، وهو يعتقد أن الظرف بعد انتخاب ترامب مؤاتي تماماً لفرض حل من جانب واحد، ولكن دون أي انسحاب أو إعادة انتشار بما في ذلك المستوطنات النائية، وفي عمق الضفة الغربية التي تمثل عبء أمنى واقتصادى على حكومته، ودون الإعلان الرسمي عن موت حل الدولتين، ودون الإعلان الرسمي عن ضم مناطق ج - ستين بالمائة من الضفة - أقله في المرحلة الأولى، وسيكون تكثيف ممنهج للاستيطان لقتل أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وسيتم المضي قدماً في خطة أو حلم شاؤون بالوصول إلى مليون مستوطن في الضفة الغربية، وبالموازاة سيتم تكثيف التعاون الإقليمي مع الدول العربية القاهرة وعمان تحديداً في السياق الأمني لمواجهة داعش. كما الجنون الدموي الإيراني، وسيتم تكريس فصل غزة عن الضفة الغربية، وتشجيع مصر على مزيد من الانفتاح باتجاه القطاع وتقديم مزيد من التسهيلات له مع رفع أو تخفيف الحصار، وإبقاء ذلك في السياق الاقتصادي الاجتماعي مع ضمان وتحاشي أي أثار سلبية أمنية على الدولة العبرية ومع الوقت لن تمانع تل أبيب إقامة منطقة تجارية حرّة بين غزة وسيناء، وخلق سيرورة تؤدي في النهاية إلى تحمّل مصر مسؤولية تامة عن غزة، وفصل تام لهذه عن الضفة، وعدم الممانعة حتى في الإعلان عن دولة فلسطينية ما هناك.
تجاه الضفة الغربية لن يختلف الحال في الجوهر، وستناط المسؤولية بالأردن الذي سيقوم بدور مشابه لما تقوم به مصر تجاه غزة، وشيئاً فشيئاً سترتبط الضفة بالأردن أقله في السياق الاقتصادي الاجتماعي، ومع الوقت أيضاً سيكون تعلق تام بعمّان، وانفصال تام عن غزة تماماً كما هو مخطط إسرائيليا.
فلسطينياً؛ لا يمكن مواجهة المخطط الإسرائيلي، إلا بإنهاء الانقسام، وإعادة الوحدة السياسية بين الضفة الغربية وغزة، والتأقلم والتعاطي مع التطورات الإقليمية والدولية دون التخلي عن الحق والحلم الفلسطيني، والاعتماد على خيار المقاومة بكافة أشكاله مع الابتعاد عن العسكرة وأساليب داعش وأخواتها، وخوض الصراع في أبعاده السياسية الديبلوماسية القضائية، وجلب إسرائيل إلى المحاكم الدولية، ورفع مكانة فلسطين في المؤسسات والمنظمات الدولية. وإذا كانت السلطة ما زالت حاجة إلى إقليمية ودولية فلتكن لخدمة الشعب الفلسطيني، وتحسين أحواله وتمكينه من الصمود والثبات على أرضه، إلى أن تتغير موازين القوى وتهزم الشعوب العربية الثورات المضادة، وأنظمة الطغاة والاستبداد الجديدة القديمة المتحالفة مع الغزاة، وتعيد بناء الدولة العربية الديموقراطية لكل مواطنيها، وهي السيرورة التي ستستغرق سنوات، وربما عقود حتى ما يضاعف المسؤولية علينا كفلسطينيين لإدارة الصراع بوتيرة منخفضة هادئة، ولكن مصممة وعنيدة، وعدم الاستسلام أمام إسرائيل، وإبقاء جذوة القضية حية ومنع تصفيتها أو إنهائها وفق الأجندة الاستعمارية الإسرائيلية.