الجدل السياسي وحركية الوعي المطلوب
عندما أصدرت حركة «حماس» ميثاقها عام 1988 كانت الجهة التي عملت على إبرازه عالمياً والترويج له هي إسرائيل. بالطبع كان ذلك لحاجة في نفس منظري الحركة الصهيونية، حيث قدمته على أنه وثيقة عدمية تضج بالعنصرية ومعاداة السامية والمخالفات القانونية. وقامت اسرائيل حينئذ بالتعجيل بترجمته إلى اللغة الإنجليزية، وتوزيعه في الغرب، وعقد الجلسات والندوات للتشهير بكل ما جاء به، والتحريض على حركة «حماس» واتهامها بالتطرف والارهاب.!! كما قامت اسرائيل بتشجيع الأكاديميين والإعلاميين اليهود بتناول موضوع الميثاق في أبحاثهم ودراساتهم خلال مشاركاتهم في المؤتمرات الدولية بالعواصم والجامعات الغربية.
كانت اسرائيل تهدف من وراء حملتها المسعورة تلك حول الميثاق إلى شيطنة حماس وعزلها من ناحية، ثم بغرض الحد من تأثير أجواء التعاطف والتضامن والدعم لانتفاضة الحجارة من ناحية ثانية، حيث نجحت تلك الانتفاضة في خلق رأي عام غربي مناصر للقضية الفلسطينية ومؤيد لمطالب شعبها.
كانت الانتفاضة الأولى بسلميتها وعدالة مطالبها قد حركت الضمير الإنساني في المجتمعات الغربية، فخرجت الكثير من المسيرات المؤيدة لانتفاضة أطفال الحجارة في الولايات المتحدة وأوروبا، مطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة.
كانت هذه النقلة في الوجدان والفكر الغربي باتجاه الفلسطينيين قد شكلت حالة من القلق والإزعاج في إسرائيل، وجعلتها - ربما للمرة الأولى - في دائرة الاستهداف الاعلامي، حيث خرجت من مشهد الضحية إلى صورة المعتدي، الذي يرتكب جرائم بحق الإنسانية ضد الأطفال والنساء في المناطق الفلسطينية المحتلة.
كان ميثاق 88 هو ورقة إسرائيل المفضلة للقيام بحملتها الإعلامية المضادة ضد حركة حماس، بهدف قطع الطريق أمام استمرار موجات التعاطف والتأييد للانتفاضة الفلسطينية.
وبالرغم من أن ميثاق 88 كان ورقة تعبوية لصياغة رؤية للحركة وسط التوترات التي كانت قائمة مع الاحتلال، بهدف حشد الساحة الفلسطينية وتعبئتها وطنياً، وشد انتباه الأمتين العربية والاسلامية تجاه واجبها لنصرة قضية فلسطين، ووضع ملامح لرؤية استراتيجية تنهي الاحتلال، وتبشر بالموقف الواضح والصريح تجاه موضوع اللاجئين وحق عودتهم إلى أرضهم، كما أقرت بذلك الشرائع السماوية والقوانين الدولية، إلا أن المبالغات الإسرائيلية بأن هذا الميثاق إنما هو دعوة لاستئصال اليهود في فلسطين وحول العالم، برؤية قاموا بتسويقها بأن لغة هذا الميثاق تحمل مضامين عنصرية ومعادية السامية، وهي الأسطوانة التي برعوا بترديدها إذا ما أرادوا التحريض والتشهير بجهة ما، وهي - للأسف - تلقى القبول، إذ سرعان ما يبدأ الضخ الاعلامي والسياسي في الأوساط الغربية بالترويج لها .
حاولنا في أمريكا كقيادات فلسطينية عاملة في المؤسسات الاسلامية التدارك ومواجهة هذه الحملات الصهيونية العالمية المنظمة التي تستهدف شعبنا وقضيتنا الوطنية، فقمنا في الاتحاد الإسلامي لفلسطين (IAP)، الذي يمثل واجهتنا الحركية، بتقديم طبعة إنجليزية من الميثاق، حيث تحرينا أن تكون الطبعة أمينة وغير محرَّفة، تعي جوهر النص، وتعري في الوقت نفسه الادعاءات الاسرائيلية، واجتهدنا على إيصالها الى المكتبات ومراكز البحث والدراسات والجامعات، بأمل اعتمادها بديلاً عن تلك الترجمات المحرفة، التي أصدرتها جهات صهيونية في أمريكا.
بالطبع، لم يكن من السهل مغالبة ماكينة الدعاية الإسرائيلية وأذرعها الإعلامية والسياسية الصهيونية الأخطبوطية حول العالم، ولكننا حاولنا بإمكانياتنا المحدودة وبجهد المقل عمل شيء لوقف حملات التشويه والتشهير والتحريض ضد الحركة، بل وقمت بإعداد دراسة باللغة الانجليزية حول حركة حماس، بهدف التعريف بها؛ باعتبارها تمثل حركة تحرر وطني ذات مرجعية إسلامية، لكشف زيف الافتراءات والادعاءات الإسرائيلية، وتوضيح رؤية الحركة التي لا تستهدف غير الاحتلال، وأن مقاومتها المشروعة هي لتحرير الأرض ومواجهة المشروع الصهيوني، الذي يعمل بمكر ومنهجية استعمارية لتفريغ الأرض من أهلها، وتهويد مقدساتها.
ظل ميثاق 88 وحتى اللحظة هو أداة التحريض التي توظفها إسرائيل ضد حركة حماس.. وللأسف، نجحت ماكينتها الدعائية والأمنية في إبقاء الجدل السياسي حوله قائماً، ولم تترك سياسياً أو إعلامياً التقى قيادات حركة حماس إلا ودفعته لطرح الأسئلة المتعلقة بقضية الاعتراف بإسرائيل، وبنظرتهم كإسلاميين تجاه وجود كيانها على أرض فلسطين.
كانت هذه الأسئلة التي حملت نكهتها التباسات بعض النقاط التي توحي بأن هناك لغة عنصرية أوردها ميثاق 88، وإن لم تكن مقصودة – بالطبع - على إطلاقها.
الوثيقة الجديدة: تساؤلات الوعي السياسي المطلوب
منذ صدور ميثاق 88 وحتى اليوم، لم تتوقف إسرائيل عن تعبئة العقلية الغربية بأن هذا الميثاق هو "المانفيستو" التي تربي عليه حركة حماس كوادرها لهدف إبادة اليهود ونحو ذلك من الادعاءات العنصرية، التي لا أساس لها من الصحة، وحيث إن الكثير من شعوب العالم الغربي يجهلون طبيعة العلاقة بين المسلمين واليهود، وحياة الأمن والاستقرار والازدهار التي عاشها اليهود – تاريخياً - في كنف المسلمين على أرض فلسطين وفي بلاد الأندلس، فإنهم - ونتيجة لحملة غسيل الدماغ الذي برع بها الصهاينة - صدَّقوا للأسف تلك المزاعم، وآمنوا بدور "الضحية" الذي نجحت إسرائيل في تسويقه عليهم لعقود طويلة!!
إن هناك جملة من النصائح التي نود أن نسديها لإخواننا في قيادة الحركة، ونقدمها لهم على شكل ملاحظات، بهدف أخذها في الحسبان مع صدور هذه الوثيقة، وهي كالتالي:
أولاً) ضرورة التوضيح بأن هذه الوثيقة السياسية هي المرجعية الفكرية والحركية لرؤية حماس حول طبيعة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وإن ما سبق من إصدارات إنما جاء في سياقات تاريخية محددة، ولكنها لا تشكل بالضرورة قيداً على ما تقوم به الحركة من مبادرات أو تحركات وتوجهات سياسية.
ثانياً) أهمية التأكيد على الفصل بين الجناح السياسي والعسكري، لإفساح المجال أمام التحرك والتواصل مع المجتمع الدولي، كما حدث سابقاً مع الجيش الجمهوري الايرلندي، مما أتاح المجال أمام الجناح السياسي (الشيت فين) سهولة التحرك والتواصل مع المجتمع الدولي، وفتح الآفاق لقائده جيري آدم التحرك في كل الساحات وإيصال مطالبهم العادلة إلى كل العواصم في أمريكا وأوروبا.
ثالثاً) التأكيد على أن حماس إنما هي حركة تحرر وطني بمرجعية إسلامية، وهي تعمل من أجل بناء شراكة سياسية عمادها الحفاظ على الثوابت، والتوافق الوطني الفلسطيني.
رابعاً) إن الحركة الصهيونية هي مشروع استعماري عنصري لا يمكن القبول به داخل خريطة المنطقة بأبعادها الإسلامية والعربية، لأنه قائمٌ على فكرة نفي الآخر، والاستحواذ على الأرض الفلسطينية، وممارسة جبروت القوة والتطهير العرقي بحق أهلها الشرعيين.
خامساً) قضية الاعتراف بإسرائيل؛ بالرغم من إن هذا الكيان المارق إنما هو اليوم حقيقة واقعة (De facto) بما لها من حضور دولي، ونفوذ يصل تأثيره إلى المنظمات الدولية ومحافل الدول الغربية الكبرى، هذه دولة موجودة بحكم الواقع، وسطوة القوة.. ورغم أن كل هذا صحيح، إلا أنه لا يمكن له أن يجبر الفلسطيني على الاعتراف لهذه الدولة بحق الاستمرار في ظلم الشعب الفلسطيني ونهب أرضه وطمس هويته الحضارية.
صحيح، أن منظمة التحرير الفلسطينية - ومع هزيمة الرسميات العربية - كانت قد منحتهم مثل هذا الاعتراف، تحت ضغوطات وتهديدات إقليمية ودولية، وبموجب وعود وإغراءات من الدول الكبرى والمجتمع الدولي؛ إلا أن كل ذلك لا يلزمني كحركة تحرر وطني بتقديم اعتراف مماثل. فنحن كإسلاميين هنا أمام قضية بالغة الحساسية والتعقيد، ولها أبعاد دينية وإنسانية وقانونية وسياسية وأمنية، بل يكاد يكون هناك إجماع إسلامي على مستوى الأمة على رفض مثل هذا الاعتراف.
إن حقيقة تمتع فلسطين بمكانة دينية وتاريخية خاصة، قد جعل من الصعب على حماس تقديم تنازلات في مسألة الاعتراف هذه، خاصة وهي تراقب (الفوائد المعدومة) التي جنتها منظمة التحرير من مثل هذا الاعتراف، في أوسلو 1993، وما أعقب ذلك من مفاوضات عبثية استمرت أكثر من عشرين عاماً.
لذلك نقول: إننا لسنا مضطرين - كحركة - للاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، لأن سياسات هذا الوجود تهدد أركان وجودنا نحن أصحاب الأرض الشرعيين.
إن الأمم المتحدة لا تشترط على الدول - لكي تتعايش - أن تعترف ببعضها البعض، كما أن القانون الدولي لا يعطي الحق للدولة المحتلة أن تطالب الشعب المحتل بالاعتراف بها، بل إنه يحظر عليها ذلك.
سادساً) التأكيد على رفض التطرف والإرهاب، حيث إن هناك فهماً خاطئاً للحالة الإسلامية في فلسطين، واتهامات بعيدة عن رؤية حماس لنفسها ومشروعها السياسي، والتعاطي معها وكأنها حركة (إرهابية) متطرفة.!! لاشك بأن قيادات في الحركة والحكومة قد عبرت عما تراه توصيفاً لحالها بالنظر إلى حماس باعتبار أنها حركة تحرر وطني فلسطيني، وهي حركة سياسية - مدنية، تستمد مفاهيمها وقيمها من الدين الإسلامي الحنيف، وتعمل على تحرير الأرض الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي بكافة الوسائل المشروعة، وتعمل على تقديم الخدمة لأبناء الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وفي جميع المجالات التي تسمح بها الظروف والأحوال.
وهي حركة تأخذ – بشكل عام - بنهج الاعتدال والوسطية، ولا تعادي في الأصل إلا الاحتلال الذي سلب الشعب الفلسطيني أرضه؛ فاليهود والنصارى هم أهل كتاب، والمسلمون يحترمون عقائدهم ويحفظون لهم عهودهم.
والحركة تتطلع إلى عالم يسوده العدل والأمن والسلام، وتؤمن بالحوار مع الغرب، وتدعو كذلك إلى شراكة مع العالم الغربي على قاعدة المساواة والاحترام المتبادل.
إن حركة حماس ليست حركة دينية كهنوتية، كما يحاول البعض أن يصورها، ولا حركة أصولية بالمعنى الغربي للأصولية الذي يعني التزمت والتطرف والانغلاق، بل هي حركة مدنية تتبنى النهج الشورى والطريقة الديمقراطية في اختيار قيادتها، وتؤمن بالتداول السلمي للسلطة في فلسطين، كما أنها تؤمن بالشراكة على قاعدة المواطنة، وتؤمن بالتنوع الثقافي والتعددية السياسية، وتعتبر احترام حقوق الإنسان والمواثيق الدولية ذات العلاقة جزءاً من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وأن تكريم الإنسان هو هدف أسمى من أهداف الوجود الإنساني والمجتمع الرسالي .
كما أن الحركة تفضل الوصول إلي تحرير فلسطين بالطرق السلمية، وتطالب العالم بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية، وخاصة قرار (UN-194) القاضي بعودة اللاجئين، وكذلك القرارات التي تطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة.
وتتبنى حركة حماس المقاومة بكافة صورها وأشكالها كرد فعل على الاحتلال، ولا تتعمد - بشكل أساس - مهاجمة المدنيين، وسبق للشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) أن قدَّم مبادرة في هذا السياق.
إن حركة حماس تؤمن بأن ساحة الصراع هي في داخل فلسطين المحتلة، ولذلك فهي لا تتبنى مهاجمة الأهداف الإسرائيلية أو اليهودية خارج فلسطين، وتتطلع الحركة إلي المساهمة بإيجابية في خلق عالم خالٍ من العنف، ويتمتع بالسلام والأمن، وتنادي بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران 1967، وتطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم.
إن حركة حماس حاولت أن يكون نموذجها في المقاومة والحكم مختلفًا عن الصورة النمطية التي يستغلها الإعلام، حيث ركزت في مقاومتها على الاحتلال، ولم تتورط في أية عمليات تستهدف مصالح الدول الغربية المؤيدة لإسرائيل أو حتى المصالح الإسرائيلية في تلك الدول، حفاظاً على طهارة المقاومة، وسداً لباب الذرائع أمام الغرب، الذي ما فتئت بعض دوله تطلق تهم التطرف والإرهاب على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)..!!
ختاماً: ننتصر أو نموت
نحن شعب طرد من أرضه، وعاش في مخيمات اللجوء والشتات لأكثر من ستين عاماً، وقد تجاهله العالم وانتصر للجلاد، وقد نهضنا من واقع الظلم والتشريد والحصار نطلب حقاً أضاعه هؤلاء المستكبرين الذين انحازوا للصهاينة المعتدين، وأسهم - للأسف - في خداعنا الكثير من أنظمتنا العربية، مما جعل إسرائيل تتمادي في بغيها علينا وتتنكر لما بينها وبين منظمة التحرير من اتفاقات، وتضرب بعرض الحائط ما وقعت عليه من معاهدات.
إن حركة «حماس» في هذه الورقة السياسية الجديدة تحاول تقديم رؤيتها للعالم حول حقوق شعبنا المغتصبة، وما هي عليه من عهد وميثاق قطعته على نفسها وكوادرها بالعمل على استعادة تلك الحقوق سلماً أو حرباً، وهي تأمل أن يعتدل ميزان الحق لدى هذا العالم الظالم، وإلا فإنها وكما عاهدت هذا الشعب أن تظل أمينة على مشروعه الوطني، وألا تلقي السلاح حتى يتحقق حلم هذا الشعب في التحرير والعودة، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وسيبقى النداء يا خيل الله اركبي.. نصرٌ أو استشهاد.