] هذه الثورةُ لي: مشاهد أدهشتني هنا، في الضفّة - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

هذه الثورةُ لي: مشاهد أدهشتني هنا، في الضفّة

بقلم: امجد سمحان
الجمعة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

كانت الساعة السابعة مساءً، حين جاءني ولدي الصغير ابن الخمسة أعوام يسأل عن صورة في الجريدة: بابا، هاي صورة ليث ابن عمو فضل؟ أدهشني السؤال: ومين ليث؟ انت بتعرفه؟ أجاب مستنكراً غبائي: بابا مالك؟ ليث الشهيد ابن عمو فضل. نظرت فيه متسائلاً: كيف عرف، أنا لم أخبره بذلك. فما زال من المبكر عليه أن يعرف هذه الأمور. ليست لديّ الرغبة في أن يعرف، بصراحة. أحاول جاهداً أن اجعله يعيش كطفل، لا كرجل. لم أفهم حتى الآن كيف عرف. صدقاً، فلا أنا ولا أمه أخبرناه بذلك، ولا حتى جدّه، ولا أحد! وحين سألنا مرة عن سبب زيارتنا لـ “عمو فضل”، قلنا أنّا ذاهبون من أجل الاطمئنان على ابنه ليث. المشهد هذا، علق في ذهني. معقول أن طفلاً في الخامسة يعرف كلمة شهيد؟ ثم تذكرت أنها الكلمة الأكثر تداولاً هنا اليوم. هي كلمة غابت عن قاموسنا لفترة. ليس لأنه لم يسقط منا شهداء، بل لأن استشهاد ليث تزامن مع ما لا أدري ما اسمه: انتفاضة، هبّة، فورة، أو ثورة..

أما ليث فهو ابن فضل الخالدي، صديق عزيز، قتله جندي إسرائيلي قبل شهرين تقريباً، بينما كان الطفل ابن الخمسة عشر عاماً مقهوراً يحاول أن “يعمل إشي” إثر حرق عائلة الدوابشة على أيدي المستوطنين في قرية دوما قرب نابلس. أما الصورة التي رآها ولدي فهي لشادي عبيد الله، وقد استشهد شادي خلال الهبّة الشعبية الفلسطينية التي انطلقت في الأراضي الفلسطينية بداية تشرين أول / أكتوبر الجاري، احتجاجاً على ما يجري في القدس والمسجد الأقصى، واستجابةً لرغبةٍ كامنة في الفلسطينيين. تلك الرغبة، بحسب رأيي، تسري بين الذين يريدون انتفاضة، ولا يريدون انتفاضة، يريدون الحرية، ويأسفون مما يجري من تهميش، ولامبالاة عربية، وإسلامية، وفلسطينية أحياناً، ومن الانقسام، ومن ضياع الهدف وتعدد الرؤى. في النهاية، المشهد كله مثير، وغريب. فمن ناحية، أعاد خروج الشباب إلى الشارع للعديد من المتواجدين هنا نوعاً من الروح المعنوية التي تدهورت في ظلّ تدهور كلّ المنطقة، وهو، من ناحية أخرى، مساحة لـ “فشّ الخلق” في ظل التصعيد الإسرائيلي المتواصل، والاستيطان، والإغلاقات، والحصار.. لكنّ، تغصّ في القلب صورة هؤلاء الأطفال. لا يمكن أن يقبل أحدكم بذهاب ابنه من بين يديه بعدما ربّاه 15 سنة مثلاً. صحيحٌ أنه سيموت، وصحيحٌ أنه القدر، لكن الصحيح أيضاً أنه ابنه. من الصعب جداً القبول بالمعادلة. الغريب والمدهش أنها مقبولة هنا. فليث، حين استشهد، أصرّ والده على أن يعيده إلى سريره لينام عليه “نومة أخيرة”. رأى أن السرير “لم يتسع له، كان حجمه أكبر بكثير”. وأما شادي فقد أصرّت أمه على أن يعاد جثمانه إلى مدرسته، لكي يسجّى على مقعد الدراسة، قبل أن تدفنه قريباً من منزلها، وقريباً من الملعب الصغير حيث كان يلعب لما تم قتله. دفنته هناك حتى “لمّن يجي على باله يلعب، يطلع يلعب”.

- رأسه أقسى من رصاصة

المشهد فيه نوعٌ من التكاتف. الكلّ مهتم بأن ينشر الأخبار ليعرف الناس ما يجري حولهم، وأين يتواجد الجيش الآن، وأي الطرق مغلقة، وأي طريق مفتوح، ومن أصيب، وكيف.. كل ذلك في لمح البصر، تجده منشوراً على وسائل التواصل والمواقع وسواها. لكن، في النهاية، هناك شيب وشبان ورجال ونساء في الميدان يغطون ما يجري، مباشرةً من أمام الجندي أو خلفه، أو بينه وبين من يرشقون الحجارة، وهذا كله خطر وراءه خطر، فالرصاصة إن أخطأت قليلاً، تقتل أو تجرح.
ما أدهشني في هذا السياق هو مشهد أب صحافي، اتصل به صحافي زميل له، وأخبره بأن ابنه أصيب برصاصة في رأسه. يقول محمد دراغمة معلقاً على حادثة إصابة ابنه: “في فلسطين، المسافة الفاصلة بين الموت والحياة، بين الفرح والحزن، قصيرة جداً، جداً. ابني علاء درس الصحافة، ويتدرب في وكالة”الأسوشييتد برس“. اليوم، خرج لتغطية المسيرة في مخيم قلنديا.. وبينما كان يقف مع اثنتين من زميلاته، أصابه عيار معدني في الرأس. نعم، في الرأس.. عندما أبلغتني إحدى زميلاته عبر الهاتف بأنه أصيب في الرأس، وأنها معه في سيارة الإسعاف في الطريق إلى المشفى، شعرت بأن العالم كله ينهار أمامي في لحظة واحدة. إصابة في الرأس تحمل معها كلّ احتمالات الخطر... شعرت بأن الحياة، بكلّ ما عليها، صغيرة جداً، لا يزيد حجمها عن الرصاصة. دخلت إلى المشفى، وإذا به في غرفة الإنعاش... إنعاش... يا الهي، وما هي احتمالات الحياة في الإنعاش… خرج الأطباء وقالوا: الحمد لله، رأسه قوي، أقسى من الرصاصة، فانقلب المشهد من حزن إلى فرح”.
الزحف لا يخفى عليكم. مشهدٌ قديم، ربما تذكرونه، وإن نسيتم، افتحوا على قنوات التلفاز المهتمة بالموضوع، تجدونه. ستكتشفون ما يجري هنا في فلسطين. مشهد طفل يحمل حجراً أمام جندي مدجج بالأسلحة والأقنعة، أو أمام دورية عسكرية مصفحة، أو حتى دبابة. وطائرة. مرّة رأيت أطفالاً يضربون حجارةً تجاه طائرة هليكوبتر إسرائيلية. ضحكت حينها، لكنهم كانوا جديين. كان يضربون الحجر ويكمنون خلف صخرة، خوفاً من أن يُطلق عليهم الرصاص من السماء.

- اقتحام مستوطنة!

لكن هناك مشهداً جديداً أدهشني، ولم يعطَ حقه في وسائل الإعلام. بصراحة، لم أشاهده بنفسي، لكن صديقاً موثوقاً كان يصوّر في المكان رآه. في إحدى ساعات المساء، تواجدت مجموعة من الشبان قرب مستوطنة “بيت إيل” في رام الله. ربما عددهم كان مئتين أو مئة وخمسين، لا أدري. وكانت المواجهة بينهم وبين الجنود الإسرائيليين من مسافة خمسين متراً. والمشهد تقليدي. تلقى الحجارة. يطلق الرصاص والغاز، كرّ وفرّ، وأصوات “وي وي وي” أو “إصابة إصابة. إسعاف إسعاف”.

لكن، ما حصل قرب “بيت إيل” لم يكن عادياً. إذ قرّر جميع المتظاهرين الزحف إلى قلب المستوطنة. حقيقةً، هي ليست فقط مستوطنة. بل هي مقر القيادة المركزية للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية. وبينما الزحف مستمر، أطلق الجنود رصاصات في الهواء. لم يتوقف الشبان. واصلوا التقدم حتى دخلوا إلى المستوطنة. لم يصدق أحد من الحاضرين ما حصل. كان الجميع يظنون أنها مسرحية. وبدأ الشبان بالمواجهة المباشرة مع منازل المستوطنة وثكناتها العسكرية. جسدٌ عار أمام مبنى أصمّ جلس فوق مكانٍ يعود لنا. وعلى الرغم من أن المشهد لم يدم طويلاً إلا أنه كان مدهشاً. خلال فترة الاقتحام للمستوطنة، تراجع الجنود إلى الوراء. وصلت تعزيزات إسرائيلية، وصار إطلاق الرصاص بشكل جنوني. لم يكن كله موجهاً تجاه المتظاهرين. أظن أنه رصاص الخوف. وفرّ الشبان من المكان بعدما حقّقوا نصراً معنوياً، خرجوا بإصابتين بالرصاص الحيّ في الصدر مباشرة. لكن لم يسقط شهداء. قد يظن البعض لوهلة أنه أمرٌ سهل. لكنه أخطر ما يكون. فالمستوطنة محمية بالأبراج والقناصة والأسلاك الشائكة والمستوطنين المدججين بالأسلحة. ذلك كله عجز عن صدّ الصدور العارية. غريب، أليس كذلك.

- العجائز

مرة أخرى، أعادت الانتفاضة روح التكاتف. بصراحة، هذه الروح غابت قليلاً. لم تنته أكيد، لكنها غابت. أتذكّر، خلال الانتفاضة الأولى، مشاهد خارقة انخرطت فيها أصناف المجتمع كافة لكي تدعم الانتفاضة. كان كلّ الشعب يقاوم. حتى العجائز. لكن هذا المشهد اندثر. ما أدهشني هو رؤية سيدة مسنّة في القدس تلقي الحجارة. كانت في مواجهة مباشرة مع

- دورية إسرائيلية.

لم يقتصر الأمر على هذه المرأة. هناك مشهد آخر أدهشني، قوامه المسيرات العفوية التي انطلقت نحو منازل الشهداء ومنفّذي العمليات التي هدّد بنيامين نتنياهو بهدمها كعقوبة جماعية تفرض على الشعب الفلسطيني. ساروا، محاولين حمايتها. نجح الأمر مرة واحدة في قرية سردا قرب رام الله، حين داهمت قوات إسرائيلية منزل الشهيد مهند حلبي، منفّذ عملية الطعن في القدس، لتفاجأ بنحو أربعمئة شاب فلسطيني يقفون أمامها بصدورٍ عارية لمنع هدم المنزل. ورغم محاولاتهم هذه، عجز الشبان عن منع اقتحام المنزل في النهاية. لكنهم أعاقوه لفترة كافية مكّنت أهل المنزل من إخلاء ما يمكن إخلاؤه.
وأمام عينيّ والدة الشهيد، هتف الشبان بأغانٍ وطنية، فيما الأم الثكلى مصدومة. في مكان آخر، وفي التوقيت ذاته، كان هناك عرس لشاب في القدس. فجأة، تحولت “زفة” العريس إلى أغانٍ وطنية. “جنة جنة.. فلسطين يا وطنا”، ثم أغانٍ للشهيد الحلبي.

- “دمّ بيكفي الصين”

هاتفني صديق لي في وزارة الصحة الفلسطينية غاضباً. أنتم الصحافيون “خربتوا بيتنا”. ضحكت كثيراً من نبرة صوته وانفعاله، هو الذي يمتلك روح النكتة والدعابة. قال لي: “وين أروح في الطوابير اللي جاي تتبرع بالدم؟”. أجبته: “ولماذا طلبتم التبرع به؟”. قال: “والله ما طلبنا من حد، عنا دم بيكفي الصين”. انتهى نقاشي معه بتبادل الضحكات، واكتشفت أن الأمر، ببساطة، كان عبارة عن “نخوة” صرفة. فقد نقل أحد الجرحى إلى المشفى، وكان بحاجةٍ إلى وحدات دم. وحين أحضرت له الوحدات، طلب الأطباء من ذويه التبرّع لاستبدالها في بنك الدم. ففهم ذووه أن المشفى بحاجة إلى الدم، هاتفوا صحافياً وطلبوا منه نشر الخبر. في أقل من نصف ساعة، وصل المئات إلى بنك الدم في رام الله. وأحدثوا إرباكاً وأزمة إلى أن اضطر الموظفون هناك على إرجاع العديد من المتبرعين. قال لي صديقي في وزارة الصحة: “صحيح هم ضغطونا، بس لسّه النخوة ما ماتت، ولسّه فلسطين بخير”.

- رجعت فلسطين

منذ بدء أحداث الربيع العربي، تهمّشت قضية فلسطين تماماً. البعض قال: “بيكفي، زهقنا منهم”. آخرون قالوا: “خليهم يتصالحوا أول”، فيما تحدّث طرف ثالث ورابع وخامس عن كل شيء إلا عن فلسطين، تلك القضية التي ظلت شمّاعة لأنظمة العرب على مدار سنوات النكبة. على كلّ الأحوال، عانى الفلسطينيون من التهميش هذا، شعباً وسياسيين. أنا عانيت، أيضاً. لا أخفيكم أني أحسست بالقهر والغيرة. فلم تعد فلسطين بوصلة. طبعاً، لا يمكن لوم الشعوب، ولا الحكومات أحياناً. الموت والقتل والدمار لحق بكلّ العرب. لا أهمية لكلّ هذا الآن. لكلّ دولة عربية همّها. ولكلّ شعب عربي همومه. لكن لا أظن أن هذا أمرٌ يجب أن ينسيكم فلسطين. صحيح أنها همّشت، لكن الهبة أعادتها. صار الخبر الفلسطيني أولاً في النشرات، من جديد. ربما الأمر شكّل مهرباً لبعض وسائل الإعلام التي انغمست في حروب عربية ما عادت تعرف كيف تخرج منها. هناك مليار احتمال. برأيي، لا يهم ذلك. المهم أنها عادت. والاهتمام بها عاد. ولو كحدث عابر. على الأقل بالنسبة إلينا هنا، ترانا استعدنا قليلاً من المعنويات.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 105 / 2287654

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 19

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010