] دم القدس الساخن - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 26 أيار (مايو) 2018

دم القدس الساخن

د. يوسف الحسن
السبت 26 أيار (مايو) 2018

في ربع العام ٢٠١٨، أغلقت كنائس القدس المحتلة، أبوابها احتجاجاً على قرار سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» فرض ضرائب على هذه الكنائس وممتلكاتها.
* وشهدت كنيسة القيامة وساحاتها، احتجاجات شعبية واسعة، شارك فيها مقدسيون وحجاج أجانب، قدموا إلى القدس، ليحتفلوا «بعيد القيامة».
* وأمام هذه الاحتجاجات الشعبية، رضخت «إسرائيل»، وتراجعت عن قرارها الذي تحدت به الشرعية الدولية والقرارات الأممية، وانتهكت حقوق كنائس القدس المحتلة.

* وتدفق إلى ساحات كنيسة القيامة، فجر اليوم التالي، الآلاف من المقدسيين والحجاج المسيحيين، تغلبهم دموع الفرحة، وسجدوا على ركبهم، وهم يؤدون صلواتهم، وسط النحيب والدموع، ومع شروق الشمس، تدفق المزيد من الحجاج.. في تحد واضح لممارسات سلطات الاحتلال.
* وقبل انقشاع ظلام ليل ذلك اليوم، حضر أمين مفتاح الكنيسة. وحامل ختم القبر المقدس، أديب جودة الحسيني آل غضية، ليسلم مفتاح باب الكنيسة الرئيس الخشبي، إلى وجيه نسيبة، والذي صعد بدوره، سُلماً ويدير المفتاح، ليفتح باب الكنيسة. وعلى الفور، هرع المصلون والمتعبدون إلى داخل الكنيسة.
* ظلت مسائل فتح باب الكنيسة وإغلاقها ومفتاحها، غامضة في ذاكرتي التاريخية، خاصة وأن من يتولى هذه المسائل الشائكة، عائلتان مسلمتان مقدسيتان،
* قبيل منتصف الثمانينات من القرن الماضي، التقيت صدفة بفتاة مقدسية، في أحد أنشطة مكتب جامعة الدول العربية «بواشنطن دي سي». حيث يلتقي دبلوماسيون عرب بالجالية العربية الأمريكية، في إطار احتفالات ثقافية واجتماعية متنوعة.
* توثقت صلاتنا الأسرية مع هذه الفتاة المقدسية، وأبدت استعدادها لتدريس الأبناء، اللغة العربية، وبخاصة بعد أن أنهت مهمتها المبتعثة من أجلها، في تدريس اللغة العربية لأبناء المغفور له بإذن الله الملك حسين، من زوجته الثانية «نور الحسين» المقيمين في العاصمة الأمريكية.
* حدثتني الصديقة المقدسية «حاكمة جودة الحسيني آل غضية» عن القدس، وعن توهجها الذي لا ينطفئ، وعن البلدة القديمة، التي يقدسها أبناؤها، كلما حل عليهم صقيع الغربة والشتات، وعن موقع القدس البهي بين الأرض والسماء.
* وفي شتاءات واشنطن، كانت ابنة القدس، تستدفئ بجمال ذكرياتها في مدينتها، وكيف تلد القدس بشراً يُلبون جوهرها الجمالي والقدسي الخالد. ويتمازج بشفافية عالية، فضاؤها الإسلامي التاريخي، بظلال المسيح، عيسى ابن مريم عليه السلام.
* كانت القدس، حاضرة بكل وجعها وذكرياتها، في كل لقاءاتنا الأسبوعية مع الدكتورة حاكمة - بعد حصولها على درجة الدكتوراه - كثيراً ما حدثتني عن البلدة القديمة، وعن باب العمود، ومربعات البلاط الصخري الملساء، التي سارت ملايين الأقدام فوقها عبر آلاف السنين، وعن طقطقات المسابح، وحفيف عباءات الرهبان السوداء، وعن تلك الساحات والأقواس، ونداءات البائعين. والأكواب الخزفية المركونة على حافة «سبيل» أثري يطفئ ظمأ العابرين.. وعن «بوابة مندلبوم»، والتي لقبتها ببوابة الدموع، لكثرة ما شاهدته، من شهقات وعبرات لأناس فقدوا بيوتهم وأهلهم، حينما جاء الغزاة الصهاينة، بوحشيتهم، وعنصريتهم التي لم تعرفها القدس منذ الحروب الصليبية.
* سألتها ذات نهار، عن قصة مفتاح كنيسة القيامة، وكيف وصلت أمانة المفتاح إلى عائلتها المسلمة منذ نحو ألف عام وحتى اليوم.
* روت لي القصة كاملة بعد إهدائي كتاباً مليئاً بالوثائق التاريخية عن سلالتها، وعن الحجج و«الفرمانات»، وعروبة القدس. وعن أشقائها الثلاثة جواد وحسن وعبدالقادر، الذين ورثوا أمانة مفتاح كنيسة القيامة، عن أبيهم، وهم مازالوا يمارسون هذه الأمانة حتى يومنا هذا.
* وقالت: قبل طلوع الفجر في كل يوم، ومنذ ألف عام، يحضر إلى الكنيسة شاب من عائلتنا، وحاملاً مفتاح الكنيسة، ويكون بانتظاره شاب آخر من عائلة «نُسيبه» المقدسية، حيث يتسلم المفتاح، ويصعد بدوره سُلماً، ويدير المفتاح، ويدفعان باب الكنيسة لينفتح أمام المصلين والحجاج، ويتكرر المشهد، عند غروب الشمس، حيث تجري مراسم إغلاق بوابة الكنيسة، ويعود الشاب الأول، حاملاً المفتاح إلى بيت عائلته.
* لقد بدأت القصة، حينما قرر صلاح الدين الأيوبي إثر تحرير القدس، أن يجعل من المسلمين، عيوناً ساهرة على الكنيسة، لحمايتها وصيانتها ولجباية الضرائب المفروضة على الأجانب الداخلين إلى الكنيسة.
* كما قرر صلاح الدين، وعملاً بالعهدة العمرية، إعطاء نصارى القدس، الأمان على كنسهم وديارهم، وأباح لهم حرية العبادة وفق طقوسهم. ولم يغفل عما فعله الصليبيون (الفرنجة) حينما احتلوا القدس في عام ١٠٩٩م من ارتكاب المجازر، وذبح مسلمي القدس، إلى درجة أن «الدماء وصلت إلى ركب الخيل» في شوارع القدس، حسب الروايات الغربية نفسها، ولمواجهة هذه المخاطر المتوقعة في المستقبل، قام بدعوة قبائل عربية من بني حارث وبني مرة والجرامنة وبني سعد، للسكن في القدس، لحراسة بوابتها وقلاعها وأسواقها التاريخية، وبخاصة حينما فتح الباب لحجاج الإفرنج الأوروبيين بالقدوم إلى الأراضي المقدسة، وأخذت أعدادهم بالتزايد، وشعر المسلمون بأن جنوداً أو مقاتلين يندسون بين الحجاج.
* وقد اتخذ صلاح الدين الأيوبي، عدداً آخر من الخطوات الوقائية، فابتكر أعياداً دينية وقومية، مثل عيد النبي موسى، لكي يتجمع المسلمون في هذه الأعياد، كتجمع احتياطي مضاد، ليكون على أهبة الاستعداد، وبخاصة خلال أعياد الفصح المجيد، حينما تتكاثر أعداد فرسان الفرنجة، الذين أخذوا يشاركون في هذه المناسبات الدينية.
* وأمام هذه المخاطر ولمعالجة اختلافات داخل العائلة المسيحية، بطوائفها المتعددة، الراغبة في التحكم ببوابات كنيسة القيامة، قام صلاح الدين الأيوبي، بإغلاق أبواب الكنيسة، وجعل الدخول والخروج من باب واحد فقط، وأمر بتسليم مفتاح الكنيسة إلى عائلة مقدسية إسلامية، لها جذور عميقة في تاريخ القدس، وهي عائلة آل غضية، وتعرف في يومنا هذا بعائلة «آل جودة» المقدسية.
* وقد تم اتفاق بين الطوائف المسيحية الثلاث: اللاتين والروم الأرثوذكس والأرمن، من جهة، والخلافة العثمانية من جهة أخرى، على السماح لكل طائفة بأن يحمل أحد مطارنتها، مفتاح كنيسة القيامة خلال أيام عيد الفصح المجيد، لمرة واحدة في العام، وأن يسيروا به في موكب رسمي، من ديرهم إلى باب كنيسة القيامة، على أن يعاد المفتاح فوراً، بعد إتمام فتح الباب، إلى أمين مفتاح باب الكنيسة المسلم.
* حنين الدكتورة حاكمة بنت جودة إلى القدس، ليس مجرد حنين شاعر إلى فردوس مفقود، أو سفر مخيلة إلى مكان مقدس وجميل.. بل هو حنين إلى وطن وحقوق وتاريخ وجذور، وصراع على معنى الوجود العربي، وعلى روح هذا الوجود، وعلى المعنى الإنساني لمدينة السلام والمحبة.
القدس ما زالت في موقعها البهي بين السماء والأرض، رغم دمها الساخن على يد ترامب.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 52 / 2323068

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

29 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 27

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28