] فراشة الربيع في غزة - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 18 آذار (مارس) 2016

فراشة الربيع في غزة

بقلم: احمد جميل عزم
الجمعة 18 آذار (مارس) 2016

كانت “فراشة الربيع”، كما كُتب على بطاقتها، تَخُطُ، مرتديةً جلبابها الطويل، الأسماء التي أخبرتها إيّاها على أكواب القهوة التي اشتريتهُا، وحولها زميلاتها، عندما انطلقت موسيقى مرتفعة ودبكة. وكان شاب طويل وسيم، مشدود الجسد، ملتحٍ، يبتسم ويصفق بكفين واسعين، وخلفه بعيداً شباب الدبكة، ينظر إلى الفنانات اليافعات، اللاتي أصررن على خطّ شيء مختلف على أكوابي لجعلها شأناً شخصياً، وبادلنَه ابتسامات فرح وصداقة، وخِلتُ النظرات الجذلة المتبادلة شيفرة تحمل رسائل من نوع “هل تذكرن؟”، أترين؟
كان المشهد وسط زحام معرض “منتجات نسائنا الحادي عشر”، في قاعة قرب بحر قطاع غزة، الثلاثاء الماضي. وبدا المشهد مُجسِّداً لغزة.
ليكتمل المشهد، يجب أن أذكر أنّ الشاب الوسيم الطويل كان على كرسي متحرك صغير، يبدو بدائياً، من مواسير كتلك المستخدمة للمياه. ولولا إرادة وقوة الشاب الفارع، لما أدى الكرسي غرضه.
يَدفَع وضع الفلسطينيين في كل مكان إلى البحث عن تشبيهات، وأوضاع سريالية غرائبية لفهمها. فمثلا، سمعت خليل هندي، رئيس جامعة بيرزيت السابق، يردد أكثر من مرة أنّ الاحتلال يريد جعل الفلسطينيين في وضع من يقبع في سجن “كلي الرؤية” (أو Panopticon)، في إشارة لسجن صممه الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام (1748-1832)، حيث يمكن لشرطي واحد رؤية كل السجناء في زنازينهم من مكان مطل. وهو لا يستطيع متابعة الكل في اللحظة ذاتها حقاً، إنما الغرض أن يخشى ويعتقد السجين أنه مرصود طوال الوقت. ولكن وضع قطاع غزة جعلني أعيد الاطلاع على قصة الكاتب اليهودي غير الصهيوني، التشيكي، فرانز كافكا (1883-1924)، “مستوطنة العقاب”؛ عن وادٍ رملي فيه كثير من الشجر (كأنه غزة)، وضابط (كأنه الاحتلال)، يدير آلة إعدام غريبة تَحفُر الحكم على جسد السجين المُدان من دون محاكمة، وتقتله بطيئاً، على مدى 12 ساعة.
يمكن في بعض المواقع رؤية حدود قطاع غزة من الجانبين؛ فهو شريط ضيق مكتظ، وعليك حتى تدخله أن تمرّ بمعبر بيت حانون (إيريز، بحسب التسمية الإسرائيلية)، وبعد إجراءات التفتيش بأجهزة وبوابات كالسجون، وماكنات فحص أشبه بمصانع ومستشفيات غريبة خيالية، تمر بقفص حديدي يبلغ طوله 2100 متر، ثم حاجز “سلطة رام الله” أو ما يسمى حاجز (5-5)، ثم حاجز “حماس” المسمى (4-4). ومع ذلك، فإن عبور هذه الحواجز أُمنيةٌ للكثيرين، فهي بوابة السجن المغلق، وسط إغلاق معبر رفح المتواصل.
أبحث، فأكتشف أنّ “فراشة الربيع” فنانة تشكيلية لها معارضها ولوحاتها الجميلة، وهذا مشروعها للرسم على الزجاج، وأنّ الشاب الوسيم متطوعٌ ضمن مجموعات شبابية.
داخل القطاع حواجز، وانتشار أمني مكثف لحركة “حماس”. ويمتدح الناس الأمان والاطمئنان، والنوم من دون قلق ليلا، بسبب القبضة الأمنية. فيما يشكون تقييد الحريات السياسية والاجتماعية، والضرائب، ويبحثون عن الفرح والحياة أيضاً.
يكشف الحديث مع أشخاص من شرائح مثقفة ومتعلمة وفئات عمرية مختلفة، الشعور بالمجهول؛ ليس فقط الحواجز على الحدود، والتواجد المسلح الكبير في الداخل، وقيود الحياة المتغيرة يومياً، وذكريات القصف والقتل الإسرائيليين، والدّمار الذي تساهل العالم وواشنطن والإسرائيليون في تسريع نقله والتخلص منه، من دون إتاحة إعادة الإعمار ورفع الحصار بالسرعة عينها، وإنّما أيضاً “الخيال” أو “التخمين” بوجود مدينة كاملة تحت غزة، من “أنفاق حماس”، فيتكرر أن يخبرك محدثك، “ربما تحتنا هنا، في هذا المقهى أو الفندق، نفق”.
تعيش سجناً كبيراً، ونقص خدمات وسلع، وفرصا محدودة للحياة والتعليم، وارتفاع أسعار جنونيا مع إقفال الأنفاق مع مصر، والضرائب، وتتخيل تحت بيتك نفقا! وتُحب شعور مَنعَة المقاومة في غزة التي لم تُكسر، لكنك تعيش حالة قلق وخوف.
بينما تُفكر بهذه الحالة، تسأل سائق التكسي في رام الله، بعد عبورك وسط الأمطار معبر قلنديا، لماذا الازدحام؟ فيخبرك “شارع الفرندز مغلق”. فتسأله: هل هناك حفريات وأعمال؟ فيرد: “يقولون ذلك”. وتسأله ماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟ فيرد بغموض: “هي أعمال ولكن أي أعمال؟”. فهنا الشك والشعور بالمجهول، وهناك السجن وتوقع انبجاس الأرض تحت قدميك، وفي الشتات شيء آخر.
الشباب يدبكون والموسيقى تصدح، والفنانات يرسمن ويطرزن؛ ويسخَرون ويصمدون. وكما في قصة كافكا، ستقتل آلة الإعدام الغريبة من يُشغّلها.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 70 / 2287654

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

53 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 45

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010