] متى يستوي العراق على الجودي؟ - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 30 حزيران (يونيو) 2017

متى يستوي العراق على الجودي؟

د.صالح عوض
الجمعة 30 حزيران (يونيو) 2017

أجل إنه الموج المتلاطم الذي يضرب بعنف سفينة العراق يمنة ويسرة حتى كاد الخرق يتسلل إلى عمقها ولوحات الخشب تقاوم بعنف صخورا مبعثرة في بحر لُجِّي.. ولقد كادت قلوبنا تنفطر فيما كنا نتابع هجمات الكواسر والضواري على جسد العراق ونحن ندرك أن المقصود ضياع الأمة وابتعاد القدس وانهيار كل جميل في حياتنا، كيف لا والمعني هو العراق سيف الأمة وعقلها أول الحرف ومنبت المروءة والرجولة.. يطمئن من روعنا التفاتتنا العاجلة للتاريخ فنرى مشاهد ليست اقل من هذه وكيف خرج العراق منها بسلام على أسنة الرماح..

بعد أن تمكن العراقيون من طرد الأمريكان بقوة السلاح والمقاومة الباسلة التي انبعثت من كل العراق من شماله ووسطه وجنوبه وأصبح على العراقيين أن يتوجهوا لترسيخ القانون والتحرر من مخلفات المرحلة الاستعمارية القصيرة بكل مكوّناتها الذاتية والخارجية.. إلا أنهم أصبحوا أمام مخطط جديد يستهدف وحدة البلد والمجتمع وعلا الصوت في البيت الأبيض الأمريكي عن مقترح قديم جديد بناء على خطة برنارد لويس والشرق الأوسط الجديد فأصبح الإقليم الشيعي والإقليم السني والإقليم الكردي دولا ثلاثا على الأقل تتقاسم العراق، بمعنى آخر تمزيق المجتمع والأرض على كيانات صراعية تفتيتية، ولن يتوقفوا عند هذا الحد بل سيفتعلون صراعات أخرى داخل المكوّن الواحد فيلتهب العراق في نار لا تُبقي ولا تذر، وهنا ركب خفاف العقول رؤوسهم فظنوا أنه بالإمكان حصول ما هو مقترح أمريكيا أو على الأقل ظنوا أنه أمر مقضي لاسيما وأجهزة أمريكا الأمنية والسياسية قد تبنَّت الموضوع.. وبالفعل فتح الباب الأبيض مصراعيه للوفود تلتقي بكبار القيادات الطائفية والعرقية تتلقى الوعود باصطفاف أمريكا بجانبهم والتعهدات بإرسال أسلحة متقدمة لحسم الخيارات.

بلا شك أصابت اللوثة من لم يعرفوا العراق وكيفية تكوينه فالعراق بلد التنوع والتعدّد وهذا سرّ قوة العراق منذ ظهوره للحياة.. فالعراقية كلمة لها ترجمة محددة أنها النخوة والآباء والرجولة والإقدام ورفض الضيم والسيادة والكرامة، أما التفصيلات الاخرى فهي من باب القناعات الشخصية، لذا كان العراقيون متداخلين تماما لا يعرف أحدهم أنه شيعي أم سني فكلهم يبجل الأئمة والعلماء وشاهداهم الصادق والنعمان والتصاهر بينهم لا يقف دونه حد مذهبي، فالود عمه سني وخاله شيعي بلا تحسس ولا تنابز.. والمسيحيون وكل صاحب دين أو مذهب يعيشون في ظل هذا التسامح الإسلامي الجليل بكرامة ومحبة.

إلا أن اللوثة الشيطانية أصابت أشخاصا ومجموعات هنا وهناك تدفعها قوى الشر والظلام التي أرادت أن تكرس حالة الانفصال في مكوّنات المجتمع فكان العنف وكان الدم وكان الألم المصحوب أحيانا بإخراج أسوإ ما في النفس من ردود أفعال وأصبح الدم المسلم أهون ما يكون.. كان هذا هو المرتع الحقيقي لمزيد من الفوضى الدامية.. ليس مهما هنا تحديد من ابتدأ الجريمة، أهو التنطع الطائفي أم التطرّف التكفيري فهما وجهان لعملة واحدة بل أنهما مبرران يستدعي كل منهما الآخر.. لكن لابد من التنبيه بسرعة إلى أن الأمر لم يقف عند تيارين متصارعين ولدا في العراق، بل إن هناك من يغذي العنف والقتل والفتنة العمياء من الخارج وعلى رأس هذا الخارج الإدارة الأمريكية.

هنا ليس مهما مناقشة العقائد والأفكار والثقافة.. إن المهم هنا مناقشة الواقع ومآلاته.. المهم هنا مناقشة تفضي إلى كشف من يقسم العراق ومن يوحده؟ من يربط مصير العراق بأمريكا ومن يحرره؟ من يدخل العراق في دوامة الموت ومن يوقف الدوامة؟

وبمباشرة سريعة نرى أن الأمر لا يحتاج طويل نقاش للتأكيد بأن تنظيم داعش ليس بديلا ثقافيا أو سياسيا للنظام العراقي السياسي الجديد الذي ليس بالإمكان الدفاع عن مفاسده الكثيرة فهو تنظيم إقصائي عدواني موغل في الجهل والتخلف والعنف والجريمة، فلقد أثبتت الأحداث نيته ورؤيته للإنسان والحضارة والمخالف، هذا فضلا عن ارتباطات مع أجهزة أمنية غربية أعلنتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلنتون ولم يخف التنظيم نيته في القتل والتدمير والإقصاء لكل المكوّنات العراقية.. لقد قامت الأجهزة الغربية بدفع داعش بقوة وبسرعة للسيطرة على قسم كبير من العراق وتدخلت لإيقافه عند حد معين لتفرض خريطة سياسية جديدة في المنطقة، ولقد كان واضحا أن جيش الدولة العراقية كان من الترهل والفساد إلى الدرجة التي انهار فيها خلال ساعات قليلة بالموصل!

هنا أصبح على العراقيين مواجهة تحد خطير لعله الأول في تاريخهم وهو تحدي الانفصال بين الجسم الواحد العربي الإسلامي “سنة وشيعة”.. ولقد وجد الانفصاليون الأكراد فرصتهم لتكريس فصل شمال العراق مختطفين بذلك أكراده ومتداخلين في تحالفات مع قوى إقليمية ودولية لتعزيز التشظي في العراق.. فالأمر الجديد أصبح يعني بوضوح أن العراق في ظل هجمة واسعة ومتعددة وجنونية على سورية لتقسيمها وتشتيتها ومن ثم إقامة كيانات طائفية وعرقية تتداخل مع كيانات في العراق للتمكين لواقع التقسيم..

هنا انبعثت قوى عديدة في العراق للتصدي إلى هجوم داعش الكاسح ولا يمكن هنا تزكية كل فعل ورأي في هذا الاتجاه، ولكن أيضا وبعيدا عن استعراض المجازر وردات الفعل التي غصت بها الساحة المظلومة يمكن مراقبة تطوّرات الوضع على صعيد السير إلى توحيد العراق شعبا وجغرافيا وتضييع الفرصة على الأمريكان.. فكان للحشد الشعبي الذي انطلق لسد الفراغ الكبير دورٌ بارز في تعزيز القوات المسلحة العراقية.. ولقد حملت الأخبار المتناقلة عن تجاوزات في اقتحام تكريت وأقل منها في الفلوجة.. صحيح أنها لا ترتقي إلى مجازر ارتكبها داعش ضد المخالفين له في المذهب والدين في المناطق التي سيطر عليها، إلا أنها مدانة بلا شك مهما قل حجمها أو كثر.. ولكن في الطريق لإخلاء الموصل من داعش كان واضحا أن الأمريكان يرفضون ذلك وكان حرصهم قويا على إبقاء الموصل خارج إطار العراق لما للموصل من أهمية فهي المدينة الثانية والأكثر أهمية بتنوعها وموقعها الاستراتيجي، ولقد بلغ التلكؤ الأمريكي إلى درجة أن قامت طائرات التحالف أكثر من مرة بقصف القوات العراقية سواء الجيش أو قوات الحشد لوضع خط ناري ينبغي عدم تجاوزه.. في هذه المرحلة فتح الحشد الشعبي مجاله ليلتحق به أبناء العراق من دون تصنيف طائفي فأصبح العراقيون السنة والشيعة في صف واحد يتقدمهم السنة في اقتحام مناطق حساسة في الموصل.

هنا بدأت تعلو القيمة الوطنية على النزعة الطائفية والتقى العراقيون مرة أخرى على جامع يوحدهم وانبعث علماء السنة جنبا إلى جنب مع علماء الشيعة يؤكدون على وحدة الشعب لطرد المتطرفين الغزاة وقطع الطريق على المشروع الأمريكي.

في داخل العراق يتنامى تيار الوحدة والمقاومة ويتوسع وينتشر ليصبح اليوم من خلال رموزه الشبابية والعلمائية هو الأكثر حضورا رغم تراكمات الفساد في الإدارات العراقية ويتهاوى منطق الطائفية لدى الجميع شيئا فشيئا لأن الطائفية كانت تحمي المفاسد، ولقد جرّب العراق ويلاتها كما جرّب تدخل الأمريكان.. وأدرك العراق أن ليس كظفره من يحك ظهره.. ويدرك العراق أن أمامه بعد سحق التطرّف وتطهير العراق منه استحقاقات عظيمة أهمها على الإطلاق إلغاء الطائفية السياسية والشروع في تأسيس دولة المواطنة والإنسان وهذا أصبح ممكنا في ظل التطوّرات المُذهلة في المنطقة.. تولانا الله برحمته.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 87 / 2285810

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

57 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 49

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010