قام البيت الأبيض مؤخراً بنشر خريطة ل (الدولة العبرية) ضمن حدودها للعام 1967، وذلك بمناسبة زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى «تل أبيب» . نشر الخارطة أثار حفيظة دوائر الاحتلال، فالخارطة التي تم نشرها عبر فيديو على صفحة البيت الأبيض في تويتر، خلت بطبيعة الحال من القدس الشرقية التي جرى احتلالها في العام 1967. وكان من الردود الهائجة المميزة ما صرحت به وزيرة «العدل» اياليت شاكيد حين قالت: «آمل أن يكون هذا مجرد جهل لا سياسة». وفي واقع الأمر أن الوزيرة الصهيونية هي من تجهل أن أحداً في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة حليفة الكيان الصهيوني، لا تعترف بأية تغييرات قسرية طرأت بعد الاحتلال ومنذ خمسين عاماً. لكن الوزيرة تتجاهل ما هو جليّ وثابت، وذلك وفق الطريقة الصهيونية المعهودة في الاستهتار بذكاء البشر وحتى بذاكرتهم الحية. فالضفة الفلسطينية الغربية هي أرض محتلة، ولم يضف مسؤولو البيت الأبيض شيئاً بتأكيدهم على هذه الحقيقة، وإن كان أمراً طيباً، أنهم قاموا بالتذكير بذلك عشية زيارة ترامب، حتى لا يستتب الوهم بالجانب الصهيوني بأن التقادم يمنحهم حق سلب أرض الآخرين أو يضفي شرعية مزعومة على هذا السطو المسلح والمستمر حتى يوم الناس هذا.
ومن المعلوم أن الاحتلال قام بالاستيلاء على القدس الشرقية وهي قلب المدينة الفلسطينية المقدسة، وادعى انه لم يفعل شيئا سوى توحيد المدينة! بعد أن كان قد استولى على الشطر الغربي من المدينة في العام 1948. وقد دأب المحتلون على فرض ما يعتبرونه وضعاً خاصاً للقدس إذ قاموا بفصلها عن بقية الضفة الغربية المحتلة، وفرضوا على أهلها قوانين خاصة مترافقة مع تضييقات شديدة وبالذات بفرض ضرائب ورسوم باهظة على الممتلكات بهدف تفريغ المدينة من أصحابها العرب، كما فرضوا على أبنائها هوية خاصة تسمى «هوية القدس». إضافة إلى تطويق المدينة بمستوطنات ضخمة من أجل إحداث تغيير ديموغرافي في المدينة لمصلحة الغزاة المستوطنين. وفي مفاوضات أوسلو مطلع تسعينات القرن الماضي، فقد تم إدراج المدينة المقدسة بين قضايا الوضع النهائي، وحيث كان مفترضاً أن تدور مفاوضات في العام 1998، لكن المحتلين أداروا الظهر للاتفاقية ومقتضياتها، وجرى خلال ذلك وبعده اغتيال اسحق رابين ثم تسميم ياسر عرفات وهما من وقّعا على اتفاقية أوسلو.
والآن يراهن المحتلون على الزمن لتكريس الاحتلال وفرضه كأمر واقع، ومن هنا جاء ادعاؤهم بالتفاجؤ من كون خريطة البيت الأبيض لدولتهم قد جاءت في حدود عام 1967.
لقد كان توقيت نشر الخريطة جيداً، لتأكيد الموقف الأمريكي التقليدي حيال ذلك، رغم ما يتسم به هذا الموقف من تناقض والذي يتبدى في دعم المحتلين بكل أشكال الدعم المادي والسياسي، والذي يستند إليه المحتلون في التنكّر للقرارات الدولية وأحكام القانون الدولي. علاوة على السياسة التي واظبت واشنطن على اتباعها بإعفاء سلطة الاحتلال من أي عقاب أو مساءلة، الأمر الذي عزز الموقف الصهيوني الرافض لأي تسوية جدية مع الجانب الفلسطيني.
وبالالتفات إلى الوضع الراهن، فإن الموقف الصائب من القدس كأرض محتلة، يملي على الجانب الأمريكي أن يعتمد سياسة منطقية برفض نقل السفارة الأمريكية وخلافاً لما جرى ترديده في الحملات الانتخابية التي يفترض أن تبقى مجرد حملات سابقة على تولي المقاليد الدستورية، وبالتالي فإنها لا تنطوي على أي التزام سياسي أو قانوني. وقد استمع الرئيس الأمريكي لآراء عدد كبير من قادة الدول العربية والإسلامية الذين حذروا من تداعيات أي قرار خاطئ محتمل بنقل السفارة. والمأمول والمطلوب في جميع الأحوال التنبه إلى محاولات سلطة الاحتلال استغلال زيارة ترامب لتشمل القدس برفقة رمز من حكومة الاحتلال.
وقد ثار لغط حول شمول زيارة حائط البراق في القدس ضمن جولة ترامب، والمأمول ألاّ يكون مصحوباً بأي مسؤول «إسرائيلي» خلال هذه الزيارة للحائط إن تمت، أو أن تُلغى هذه الزيارة في حال أصرّت سلطة الاحتلال على أن يكون الرئيس الأمريكي مصحوبًا بأحد ممثلي هذه السلطة. والأصح من كل ذلك أن يلتقي الرئيس الأمريكي بممثلي أبناء المدينة العرب الذين يتعرضون منذ نصف قرن لمختلف أشكال العسف والتمييز ضدهم، وبالقادة الدينيين المسلمين والمسيحيين فيها، بعيداً عن رموز وممثلي القوة المحتلة والذين يتصورون أن إعجابهم بالمدينة العربية التي استولوا عليها، يسوّغ لهم إدامة هذا الاستيلاء، وإضفاء شرعية زائفة عليه، وتحويل الوقائع المفروضة بالقسر والقوة الغاشمة إلى «حقائق».
يردد الرئيس ترامب باستمرار أنه عازم على السعي لإقامة سلام «في وقت أبكر مما يتصور كثيرون» على حد تعبيره، والأمل أن تؤدي جولته في المنطقة إلى ترجمة هذا التعهد بإجراءات جدية ملموسة تسهم في إنهاء الوضع الشاذ الذي طال العهد عليه.
