] جدارية محمد القيق - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016

جدارية محمد القيق

بقلم: احمد جميل عزم
الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016

أسأل الذين التقوه، وأشعر أنّهم يخبرونني عن “جدارية محمد القيق”.
عندما مرّ محمود درويش بعارض صحي خَطِر، كتبَ قصيدته الشهيرة، “الجدارية”؛ وكيف شاهد نفسه في درب موت أبيض، في المستشفى، ولكن لأنه جاء قبل أوانه، لم تُقبض روحه، فعاد يخبرنا ماذا شاهد، وماذا “فكّر”، وماذا تذكر من حياته، كيف تخيل ما سيحدث له ولسيرته، على الأرض، من بعده، بعد مماته.
إذا كان ما يزال بعد على قيد الحياة، بينما تصلكم هذه الكلمات، فإنّه يقترب من الثمانين يوماً من الجوع، حيث الماء وفقط الماء، بلا مدعمات.
هل قرر هذا الإضراب في تلك الليلة الباردة التي اعتقل فيها، نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عندما تُرك نحو 20 ساعة في العراء والبرد، على تلك التلة، في المركز الأمني والاستيطاني، المعروف باسم “بيت إيل”، قرب مدينتي البيرة ورام الله، قرب مخيم الجلزون؟
عشرون ساعة من برد شتاء رام الله القارس كافية لتتساءل: “هل تستحق الحياة الاستمرار؟”.
لشخص مثل محمد، على الأغلب لم يتساءل هذا السؤال، بل اتخذ قراراً: لن أسمح بهذا. وغالبا قرر أثناء التحقيق في معتقليّ “المسكوبية” و“الجلمة”: سأرد على الغطرسة وعلى الاعتقال الإداري بسلاح أمتلكه؛ “الإرادة”، وبالجوع سأحرك الشارع.
هو رئيس سابق لمجلس طلبة جامعة بيرزيت. كان ذلك قبل عشرة أعوام. ومعه في المعتقل الإداري الآن أيضاً سيف الدين دغلس، رئيس المجلس المنتخب لهذا العام، ومعهم “أجمل شباب فلسطين”.
كان صحفياً وكاتباً وشاباً ومتزوجاً.
من ضمن ألاعيب الاحتلال، إصدَاره قرارا بتعليق الاعتقال الإداري لحين تحسن حالة محمد، فماذا يعني هذا؟
يحاول بعض الأهل من أراضي الاحتلال الأول (العام 1948)، نقل محمد إلى مستشفى في رام الله، في اختبار لمعنى “التعليق”، فترفض إدارة المستشفى. ويعترف طبيبٌ بشكل غير رسمي: “القرار للمخابرات”. ولكن لتمرير أكذوبة التعليق، تصبح بعض الزيارات ممكنة، فيدخلون غرفته.
في اليوم الأول، في الطابق الأول، من المستشفى، يَقوى محمد على الطلب من “ابن سخنين” القادم لزيارته، أن يأتي له بمصحف كبير الخط ليتمكن من القراءة. ويأتي القرآن في اليوم التالي، ولكن محمد لا يعود قادراً على القراءة، فيسأل “السخنيني”: هل أقرأ لك؟ فيقرأ، ويستمع محمد. وقريباً منهما قرى دبورية وإكسال، وليس بعيدا مرج ابن عامر، وقرى مهجرة عدة.
يتحسس محمد شعره الذي طال، وشعر لحيته التي طالت، ويتحدث بصوته الواهن الذي يخرج بصعوبة، ويخبر أو يسأل السخنيني: لم يبق فيّ إلا شَعري؟! فقد الإحساس بأجزاء جسده إلا الشعر، هل هي هلوسات؟ يُصاب بنوبة تشنج ورعب، ويذهب في غيبوبة، وتتعدد النوبات، ويعود ويخبر من حوله، لم أغب، كنتُ أعي وجودكم، ولكني لا أستطيع الحديث أو إخباركم بوجودي.
تبدأ الاستعدادات الاربعاء الماضي لنقل محمد إلى مستشفى رام الله. يُحضّرون أنفسهم، يعلنون أسماء مناطق ومنسقين، وسلسلة باصات، من المثلث (كفر برا، كفر قاسم، وادي عارة)، ومن الجليل (مجد الكروم، الجديدة، عكا، طمرة)، ومن حيفا، وهناك نشاط في مفرق عرابة في جنين، ومسجد الحسين في الخليل، ودوار الشهيد ياسر عرفات في رام الله، وفي غزة.
يجن جنونهم، تبحث شرطتهم، ويتصلون هاتفياً بمن أعلن مشاركته ويحذرونهم. يتحول المستشفى إلى ثكنة؛ عشرات من جنودهم العسكريين والمدنيين حول “غرفة” محمد، ومئات في الخارج، يعتلون الخيول التي تواجه الآتين، ويعلو صوت القادمين بالهتاف: “يا محمد يا ابن عمي بفديك بدمي”.. والفنانة، بنت ترشيحا، جاءت مع سيارة الإسعاف، وتُمنع من الدخول.
يقول الطبيب، لا أتوقع أن يبقى بيننا أكثر من يومين.
ومحمد، وكأس الماء بجانبه، بالكاد يستطيع أن يطلب النوم، فالنوم يعيد له قليلا جداً، من طاقة. ويهمس لمن بجانبه: “لا أريد لأحد ممن أتى أن يُضرب أو يعتقل، قل لهم أريدهم سالمين”، ويذهب في الغيبوبة/ النوم.
هل رأى محمد كما محمود (درويش)، نفسه، وقد باتت السماء في متناول اليد، يحمله جناح حمامة من بينهم، نحو طفولة أخرى، وجامعة أخرى، وقناة تلفزيون آخر، وصحيفة أخرى، لذات الوطن الذي يحلم به، وللحرية ذاتها التي يدق بابها بروحه؟!


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 74 / 2287654

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 24

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010